وفاءٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
<<تفضيلُ الكلابِ على كثيرٍ ممَّن لبسَ الثيابَ>>
كان هذا عنوانَ الكتابِ العجيبِ، الذي أهدتْنيهِ العجوزُ الحكيمةُ، نزيلةُ دارِ المسنينَ، لا أنسَى ابتسامةَ (الموناليزا) الغامضةَ، المرتسمةَ على شفتيْها، وهي تقرأُ أماراتِ الدهشةِ والاستنكارِ، على قسماتِ وجهِي!
سألتْنِي زوجتِي توصيلَها، ومجموعةٍ من زميلاتِها الأخصائياتِ الاجتماعياتِ، لِلترفيهِ عن النزيلاتِ المسناتِ في عيدِ الأمِّ، لم أستطعْ التنصلَ رغمَ انشغالِي، هذه المجموعةُ لها اهتماماتٌ فريدةٌ، رغمَ أنهنَّ رباتُ بيوتٍ لا يعملنَ بِصفةٍ رسميةٍ، إلا أنهنَّ كنَّ دائباتٍ، على تنفيذِ جدولٍ شهريٍّ لأعمالِ البِرِّ، يشملُ زيارةَ عدةِ دورٍ لِليتامَى، والمرضَى النفسيينَ، والجانحينَ الصغارِ، وللمسنينَ والعجزةِ، حاملاتٍ هدايا رمزيةً أو ملابسَ وأحذيةً أو (تورتاتِ) أعيادِ ميلادٍ وبعضَ الحلوَى والألعابِ، طبقًا لِلمناسبةِ.
وكنَّ يدبرْنَ نفقاتِ هذهِ الهدايا مِن تبرعاتِهن، وتبرعاتِ بعضِ المحسنينَ، وأهلِ الخيرِ والبرِّ مِن معارفِهنَّ، والأقاربِ.
تركْتُهنَّ وأخذتُ جولةً حرةً، لِألتقيَ بِهذِه العجوزِ الفيلسوفةِ، كانتْ ملامحُها تشِي بِجمالِ أمسِ الدابرِ، رغمَ تغضُّنِ الجلدِ وتقدمِ السنِّ. العجيبُ أنَّ ذاكرتَها كانتْ حديديةً بِدرجةٍ مذهلةٍ، فهي تتذكرُ طفولتَها، وشبابَها، ودراستَها، وزواجَها، وأسماءَ أولادِها الثلاثةِ ونسائِهن، ولعلَّ هذهِ الذاكرةَ النشيطةَ، كانتْ وراءَ المرارةِ، الممزوجةِ بِكل كلمةٍ مِن حديثِها. حينَ اطمأنَّتْ لِي، بدأتْ تشكُو كيفَ نبذَها أولادُها نبذَ النواةِ، بعدَ أنْ أنفقَتْ عليهم ثروتَها، وثروةَ المرحومِ والدِهم، فأودعُوها هذهِ الدارَ، لِيبيعُوا (الفيلا) التي تبقَّتْ لَها، ويقتسمُوا ثمنَها. لم يرحمُوا شيبتَها وضعفَها، وهي التي طالَما سهرَتْ على مريضِهم، وأطعمَتْ جائعَهم، وآوتْ صغيرَهم، وباعَتْ ميراثَها ومَصوغاتِها لِإتمامِ زيجاتِهم.
عدْنا مِن الدارِ وعينَاي غائمتَانِ مِن الدموعِ، مُوقنًا أنَّ وراءَ كلِّ جدارٍ في الدارِ قصةً، لا تقلُّ إيلامًا عن قصتِها.
بعدَ أيامٍ كنتُ عائِدًا مِن العملِ حينَ رأيتُهم: ثلةٌ مِن الصبيةِ، بِأيدِيهم حبلٌ آخرُهُ حولَ عنقِها، يسحبُونَها في عنفٍ، تتشبثُ بِمخالبِها الضعيفةِ؛ وتُقعِي على الأرضِ، كصخرةٍ لا تتزحزحُ، تهربُ أسفلَ سيارةٍ رابضةٍ، يمدُّون أيديَهم فلا تطولُها، ينخسُونَها بِالعِصيِّ، يرجمُونَها بِالحجارةِ، هسيسُها الضعيفُ يُقطعُ نِياطَ قلبِي، أجليتُهم عنْها، قطعْتُ الطوقَ عن عُنقِها، تنفسَتْ بِارتياحٍ، تبعتْنِي بِأعينٍ شاكرة،ٍ وبصبصةٍ راضيةٍ، عندَ أولِ حديقةٍ أطلقْتُها، فانتبذَتْ مكانًا قصيًّا، تركْتُ عندَها طعامًا وشرابًا وانصرفْتُ، لِسنواتٍ كلمَا مررْتُ بِالحديقةِ؛ هشَّتْ لي ومعَها بعضُ جِرائِها إلا واحدًا منهم؛ ينبحُ عليَّ؛ ويهمُّ بِي؛ فتنبحُ عليْه؛ وتزجرُهُ!
في كلِّ مرةٍ كنتُ أتذكرُ عنوانَ الكتابِ، وأهزُّ رأسِي موافِقًا.
أحمد عبد السلام_مصر