الشاعر الحلاج
والآن ، لِننظر فيما ذكره الحلاج من (البيَانِ) وعطفه -بالواو- على العلم والقدرة حين قال: وأفردته بالعلم والبيان والقدرة .. بعبارة أخرى: لننظر فيما إذا كان الحلاجُ قد نجح فى (الإبانة) وما هى حدود نجاحه ؟
لُغَةُ الحلاَّجِ
حين أراد الحلاَّج أن يترجم بالألفاظ، ما يمرُّ به من أحوال. لم يكن بإمكانه أن يستعير أساليب تعبيرية من الصوفية السابقين عليه، أو المعاصرين له. فالسابقون كانوا يكتفون بالتعريف الموجز لحقائق الطريق، دون محاولة لتأسيس مفردات لغوية خاصة، وكانوا لايجدون حرجاً فى التعبيرات الشاطحة ، ربما لثقتهم من أنه سيأتى من يتأوَّلها لصالحهم، تأويلاً محمولاً على حسن الظن بهم. والمعاصرون للحلاج من كبار الصوفية، كانوا يراعون العامة والفقهاء، فيكتفون بالإشارات المقتضبة الموجزة ، كأن يجيب الجنيد عن سؤال حول المعرفة والعارف، بقوله : َلَوْنُ الماءِ لَوْنُ إِنَائهِ .." وهى عبارة خطيرة سوف يسهب الصوفية من بعده فى الكلام عليها، لكنها من حيث الصياغة اللغوية ، خالية من أية محاولة لنحت لفظ صوفى متفرِّد .
هكذا لم يكن أمام الحلاَّج سبيلٌ للاستعانة بما سبقه ، وما يعاصره من الـتراث اللغـوى الصـوفـى. ومن ناحية أخرى، لم يكن بإمكانه أن يسكت أمام طوارق الأحوال.. فصار عليه أن يؤسِّس تراثاً لغوياً صوفياً، وأن يجد مخرجاً يتجاوز بهأزمة اللغة التى تحول دون التعبير عن حقيقة الحال الذى يعاينه .. بعبارة أخرى، كان على الحلاج أن يجرِّب! خاصةً أنه القائل :
للعلم أهلٌ وللإيمان ترتيــبُ وللعلوم وأهليها تجاريبُ
ولماَّ كان الشعر الموزون هو أحد السبل التعبيرية المتاحة أمام الحلاج، فهو لم ير بأساً فى جعله مجالاً للتجريب . وقد تمخَّضت تجاريبه الشعرية عن قدر لابأس به من المتناثرات الشعرية، التى جمعها الدكتور كامل الشيبى فى مجلد واحد، ونشره محقَّقاً منذ سنوات ببغداد .. فمن تجارب الحلاَّج الشعرية، قوله مبرراً مايلبسه من ثياب رَثَّة (القشر) تخفى تحتها نفساً كريمة (اللُّبّ) ، ومشيراً إلى الأمر الجسيم الذى يشعر أنه مُساقٌ إليه :
لَئِنْ أمسيتُ فى ثوبى عديمٍ لقد بَليا على حُر كريــمِ
فلا يحزنك إن أبصرتَ حالاً مغيرةً عن الحالِ القديـــمِ
فَلِى نفسٌ ستذهبُ أَوْ سَترقى لِعمْرِكَ بى إلى أمرٍ جَسيمِ( )
تبدو هذه القطعة الشعرية على المستوى اللغوى، فقيرة بلاغياً، بسيطة التركيب إلى حد السذاجة التى لاتطمح إلا فى الإخبار عن حقيقة الحال. وهى على المستوى الصوفى، تكشف عن مضامين متواضعة، حين تؤكد بقاء الذات وتكتفى بالإشارة إلى إمكانية فنائها.. إذ الفناء درجة عالية فى سلّم الترقِّى الصوفى. وليس هذا فحسب، بل تصف الأبيات صاحبها بأنه الحرّ الكريم وهى مسألة تعدُّ من الوجهة الصوفية : نوعاً من المدح المذموم للنفس.. وكان الصوفية آنذاك قد أدركوا ضرورة ما أسموه كسر حدة النفس كإحدى الرياضات الروحية التى يسعى من خلالها الصوفى ــ مهما بلغت مرتبته ــ إلى السيطرة على نفسه والخلاص من رُعوناتها .. إذن ، لم يستطع الحلاَّج ، هنا، أن يصل بالشعر إلى درجة من النضج اللغوى أو الصوفى، بحيث يبعث برسالة صوفية عميقة، وفى الوقت ذاته يتجاوز أزمة اللغة التى أشرنا اليها .
لكن الحلاَّج لم يقف فى تجاريبه الشعرية عند هذا الحد، وإنما انجرف مع الشعر دون حذر، وترك الإيقاع يقوده نحو دليل إدانته .. فقال فى أبيات أخرى:
أنتَ بـين الشِّغَافِ والقلبُ تجرِى مِثْلُ جَرْىِ الدُّمُوعِ مِنْ أَجْفَانِـى
وتحلُّ الضَّمــيرُ جـَـوْفَ فــؤادى كحُلُــولِ الأرواحِ فـى الأبدانِ
ياهِــــلالاً بـــــدا لأربــعِ عَشْــرٍ لِثمَـــــــانٍ وأَربــعٍ واثنـتـَـــانِ( )
موقع يوسف زيدان للتراث والمخطوطات
تقديم : رمضان كامل