الشعر العباسي بين الكلاسيكية والتجديد - القسم الخامس
بقلم د . فالح الحجية
الاساليب والمعاني في الشعر
تنوعت اساليب الحياة وطرق الكسب والمعيشة وكان لكل ذلك
اثره الكبير في تطور تيار الشعر العربي بحيث ظهرت فنون شعرية جديدة لم تكن موجودة او معروفة . ووصفت الحياة ومظاهر الحضارة الجديدة على حالتها التي وصلت اليها من قصور ورياض ومواسم واعياد وقد ادى ذلك الى ارتقاء الشعر درجات على في سلم الثقافة العربية.
وتطورت اساليب الشعر العربي في العصر العباسي كثيرا جراء اطلاع الشعراء على الثقافات الاجنبية ونمو مداركهم وزيادة معلوماتهم وتطور الحياة الحضارية في هذا العصر فقد مال الشعراء الى استخدام الاساليب السهلة المفهومة المنسوجة من واقع الحياة المعاشة وابتعدوا عن اللفظة الصعبة او البدوية التي قل استعمالها او هجرت في الاغلب واستعملوا المحسنات البديعية والالفاظ الجديدة تبعا لتطور الامور وحتى وصلت الحال في بعضهم من استخدام الفاظ اعجمية في شعره وقد نشير ان مفهوم الأسلوب يعني الطريقة او السلوكية التي يتبعها الشاعر في نظم شعره فيقال مثلا سلكت أسلوبه وتعني طريقته وكما يقال كلامه أسلوبه الافضل .
و استعمل الشعراء المحسنات البلاغية و البديعية من طباق وجناس وتشبيه واستعارات وكثرت هذه بشكل ملفت للنظر في هذا العصر واول من استخدم هذه الامور بشار بن برد ومسلم بن الوليد ( صريع الغواني ) والبحتري وابو تمام وابن المعتز
ومن شعر بشار بن برد يقول :
جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه
وأزرى به أن لا يزال يصاحبـه
خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى
ولا لوعة المحزون شطت حبائبه
وحسنوا به اقوالهم الشعرية وكانت قبلهم تاتي هذه المحسنات عفوية على السنة الشعراء قبلهم وبالاجما ل فان الشعر في هذا العصر تطورا تطورا واسعا وعظيما في جميع اموره وفي شتى المجالا ت الادبية الشعرية واللغوية والفنية. يقول ابن رشيق القيرواني في كتابه ( العمدة ):
(... فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه ، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة . وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلماً أسهل شعراً من حبيب، وأقل تكلفاً، وهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة، وأكثر منها. ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم (صريع الغواني) إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين : كان يبطئ في صنعته ويجيدها وقالوا: أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد، وابن هرمة، وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره. ثم أتبعهما مقتدياً بهما كلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس. واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز؛ فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به. وشبه قوم أبا نواس بالنابغة لما اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة، وحسن الديباجة، والمعرفة بمدح الملوك. وأما بشار فقد شبهوه بامرئ القيس؛ لتقدمه على المولدين وأخذهم عنه) .
و كلمة الأسلوب التي تجري على ألسنة الشعراء والادباء والنقاد في بعض الاحيان والمراد بها التراكيب اللغوية بمعنى انفصالها عما تدل عليه من معانٍ كانت مضمرة في نفس الشاعر الاخر وهو إيهام يجعل من الأسلوب كلمات مرصوفة ذات حروف ومقاطع ربما تدل على فهم شيء للأسلوب حيث يهب الحياة والجمال أو الجمود والقبح لذلك النص او هذا .
وبالجملة هو طريقة التعبير بالألفاظ المترتبة على معرفة ترتيب المعاني في النفس في طريقة الأداء اللفظي لما ينسقه الفكر من معانٍ وينظمه العقل من أفكار ازاء الطريقة التعبيرية التي ترتبط بالمعاني اذ ان أول ما تحدث في هذا المعنى وأنه ربما يعتمد في نظريته على الاعتداد بمجموع ما يذكره في مواضيع مختلفة اذ إنه لا يتصور أن يعرف للفظ مواضع من غير أن يعرف معناه و أنما يتوخى الترتيب في الألفاظ - من حيث هي ألفاظ ترتيبًا وتنسيقا ونظمًا أي يتوخى الترتيب في المعاني ويعمل الفكر في انتقاء الالفاظ ويقتفي آثارها بحيث تترتب بخدمة المعاني وتبقى تابعة لها او لاحقة بها مع العلم بمواقع المعاني في النفس او بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق و يقوي النص في الأسلوب او بمعنى اخر هو الأداء اللفظي المطابق للصورة الذهنية لمفهوم الأسلوب الناجم عن قدرة الملكة في اللسان العربي بحيث يكون ثمرة الاعتماد على الطبع والالهام والتمرس على ايجاد الكلام البليغ الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ما يعتمل في قلبه ونفسيته من احاسيس وهنا تكمن وظيفة البلاغة والبيان .
فالأسلوب هو الصورة الذهنية للتراكيب المنظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وشخوصها بحيث يصيرها في الخيال كالقلب ثم ينتقي التراكيب الصحيحة على اعتبار النحو والبيان فينسقها فيه تنسيقا متراصا كما يفعله البنّاء في قالبه الخاص أو النساج في المنوال حتى يتسع ذلك بحصول التراكيب الاسمى بمقصود الكلام للحصول على الصورة الامثل والافضل والاقرب لملكة اللسان للشاعر العربي . لذا فلكل فن من الفنون من الكلام أساليب تختص به وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء وإنما هي حالة قد ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في الشعر العربي تجري كجريانها على اللسان كي تثبّت صوتها و صورتها المطلوبة في تقريبه إلى فهم المتلقي بشكل اسنى وافضل والتي تمثل منزلة الروح من الجسـد فالخيال في الأسـلوب بوسائله المسـتعارة وما يتصل بالمعنى اتصالا وثيقًا بطريقة مرنة من طرق التفكير حيث أنه الأداة الواضحة للتعبير فهو طريقة التعبير اللفظي الحادثة على تنسيق الفكرة والمعبرة عن أدق خفاياها ومدار جودتها أو انها طريقـة التنسـيق ومدى نهوضها بالمـعاني المعبـرة عما في دواخلها او ما تكتنفه من معان بليغة . لاحظ قول البحتري:
كأ ن الرياض الحور يكسين حولها
افانين من افواف وشي ملفق
اذا الريح هزت نورهن تضوعت
روائحه من فائر مسك مفتق
كأن القباب البيض والشمس طلعة
تضاحكها انصاف بيض مفلق
لقد صاغ الشعراء العباسيون أساليبهم في ضوء حضارة الدولة وثقافتها وطريقة تذوقها للفنون لذا جاء الأسلوب الشعري اقرب إلى الرقة في النسج والدقة في التصوير والدماثة في التعبير وشاعت في حواشيه ألوان من الزخرفة اللفظية وضروب من الزينة والجمال واكتنفت أنغامه حالة من الفخامة المؤثرة والتي قد تهز العواطف وتحرك المشاعر وتثير الاحساس . فالشعراء الاكثر تحضرا يميلون بطبعهم إلى الكياسة والزينة والانس في كل شيء فالطبع الحضري تستهويه الأناقة في كل ما حوله ويجذبه التأنق وتقربه اليها وهو ما يدلل على تطور هذه الأذواق ورقيها وهذا سبب قوي في ايجاد أسلوب شعري تركن اليه النفس لتستريح عنده في حسن صياغة أ نيقة مثل مرآة صافية وصقيلة عاكسة على صفحتها كل فنون الجمال والتنسيق الاسنى والافضل لاحظ قول بشار في ذلك :
ومخضب رخص البنا ن
بكى عليَّ وما بكيته
يا منظرًا حسنًا رأيـ ـت
بوجه جارية فديته
بعثت إليَّ تسموني
ثوب الشباب وقد طويته
ثم حالة جديدة ونقصد بها السهولة في الاسلوب ذلك الأسلوب اللين الذي يميل إلى العامية أو يؤثرها بعضهم وهذه السهولة ربما حاولها غيرهم في أساليبهم فيخفقون وينكصون عن الايتاء بمثلها وتستعصي عليهم وتمتمنع عنهم امتناعا ربما يكون عند بعضهم شديدا قد يسلمهم إلى اليأس وينتهي بهم إلى الحيرة المشوبة بكثير من الإعجاب.وهذا ما نسميه في مجال الشعر بالسهل الممتنع وقد نسج فيه كثير من الشعراء في هذين العصرين منهم ابو العتاهية :
لاحظ قوله :
كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ
طُوِيتْ عنه الكشُوحُ
صاحَ منه بِرَحِيلٍ
صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ
موتُ بعضِ الناسِ في
الأرْضِ على قومٍ فُتُوحُ
سيصير المرءُ يوماً
جَسَداً .. ما فيه رُوحُ
ومن الواضح في هذا العصر ميل الشعراء الى المبالغة والتهويل وربما كانت هذه بسبب الاختلاط االثقافي والتاثر بالاخرين وخاصة الفرس حيث تأصيل هذه الظاهرة و جذورها في تأثير الفرس وطغيان ثقافتهم، فقد كانوا مولعين منذ القدم بالإغراق في المبالغة، ووجد هذا الاتجاه صدى طيباً عند الخلفاء والامراء ، فاضطر شعراء العربية إلى مجارتهم كيلا ينفردوا بانعام الخلفاء عليهم مما تمتلئ به قصور الخلفاءر من امور التمتع واللذائذ. فأصبح هم الشاعر محصوراً في التفوق على غيره في الإبداع ونزوعه إلى الإفراط والتهويل . وكان المدح قد حظى بالنصيب الاسمى من هذه الحالة وقد امتدت منه إلى غيره من فنون الشعر .
وقد ترك اغلب شعراء هذا العصر كثيرا مما كان يسير عليه الشعراء في الجاهلية كاستهلال القصيدة بالغزل . ووصلت الامور الى ان تهكم بعضهم من هذه الطريقة واعتبروها بالية و سخروا من الشعراء الذين حافظوا عليها.
يقول ابو نؤاس :
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضر لو كان جلس
وكذلك لاحظ دخول الشعر بعض الالفاظ والاصطلاحات العلمية واللغوية كقول الشاعر ابو تمام في الخمرة:
خرقاء تلعب بالعقول حبابها
كتلاعب الافعال بالاسماء
وكذلك كثر استعمال المحسنات الكلامية البلاغية كالبديع والطباق والجناس والتشبيه الفردي و التصويري والاستعارات المختلفة وتفنن الشعراء فيها وتزيينهم لشعرهم بها كل قدر امكاناته اللغوية وقدراته البلاغية والشعرية وقوة شاعريته :
يقول البحتري:
فلم ار مثلينا او مثل شأننا
نعذب ايقاظا وننعم هجّدا
وكذلك كثر استعمال الكلمات الاعجمية في الشعر فوجد فيه كلمات اعجمية مثل الديباج او الفاذولج وخاصة الفارسية فالشاعر كأنه يتحدث إلى جمهور مزيج من العرب والعجم ويعيش في بيئة حضرية يقول ابو نؤاس :
لاتبك ليلى ولا تطرب الى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
وقال في الخمرة ايضا :
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم
او قوله :
بنيت على كسرى مدامة
مكللة حاناتها بنجوم
فأوردّ في كسرى بن ساسان روحه
اذاً لاسطفاني دون كل نديم
ويتبين مدى هواه الى الفارسية وحنينه الى المجوسية في شعوبية واضحة .
و في هذه البيئة الجديدة نجد انها :
اولا : قد ا بتعدت بالشباب الجديد عن صلابة حياة البادية وصعوبة أنماطها في الصحراء العربية فلم تعد ملكاتهم العربية الأصيلة وقابلياتهم النفسية قادرة على التماسك ازاء هذه التغيرات فلانت انفسهم واحوالهم بالحضارة العباسية وتأثروا بالوا فد الجديد الذي حبب السهولة إلى نفوسهم وخلطها بأذواقهم.
لاحظ احدهم يمدح الخليفة الرشيد فيقول:
من يلقه من بطل مسرندي
في زعفه محكمة بالسرد
تجول بين رأسه والكرد
لما هوى بين غياض الاسد
وصار في كف الهِزَبْر الورد
وثانيهما: أن الشعراء أنفسهم كانوا – غالبًا - من هذا المزيج ولكن مواهبهم الفنية كانت تعطفهم إلى النهج العربي الصميم وثقافتهم العربية وآدابها و كانت تشد من ملكاتهم فيما يتصل بالتعبير ولهذا كانت أساليبهم في يسرها من باب السهل الممتنع بما تضمنت من رقة آسرة وعذوبة خلابة. والشعراء الذين ا د خلوا هذه الالفاظ في الاغلب اما من اصل فارسي او يميلون الى الاصول الفارسية او لهم اطلاع واسع في اللغة الفارسية كابي نؤاس وابن الرومي وابن المعتز.
يقول ابن المعتز :
قم نصطبح فليالي الوصل مقمرة
كانها باجتماع الشمل اسحار
اما ترى اربعا للهو قد جمعت
جنك وعود وقانون ومزمار
ثم ا دخلت الى اساليب الشعر الفاظ فلسفية و علمية وكل ما احاط بالشعراء من امور ثقافية ومعالم وتطور وابتذال وقوة اسلوب وجد وهزل في شعر هذا العصر والشاعر من ابدع فيها واجاد .
.لاحظ قول ابي العلاء المعري :
اذا رجع الحصيف الى حجاه
تهاون بالشرائع وازدراها
فخذ منها بما اتاك لب
ولا يغمسك جهل في صراها
وهت اديانهم من كل وجه
فهل عقل يشد به عراها
وكان من اثار تطور الحياة العامة في العصرالعباسي ان تطورت الحضارة والثقافة والسياسة وتطورت تبعا لها معاني الشعر واخصبت اخيلة الشعراء وازدحمت بشتى معالم الحياة وتفنن الشعراء في معاني الشعر فقد تصرف الشعراء اولا بمعاني شعر الاقدمين قبلهم واضفوا عليها طابعا من الحسن والطرافة ورقة حواشي الصور الشعرية والبلاغية فاستخدم الشعراء اقيسة منطقية وتعبيرات لغوية تكاد تكون جديدة فيما البسوه لها من قشابة الالوان وتباين الانواع فاحسنوا التصوير والابداع واتسعت اخيلتهم الى افاق واسعة اضافية فجاؤوا بها وتظهر هذه الابداعات في التشبيه وسعة الخيال الشعري وما اكتنفه من اضافات في محسنات اللغة من طباق وجناس و بيان اضافة الى التراكيب اللفظية والصور الجميلة وتسلسل المعاني وتلاحمها فمن تصرف الشعراء بمعاني الاقدمين قول الشاعر سلم الخاسر:
فانت كالدهر مبثوثا حبائله
والدهر لا ملجأ منه ولا هرب
ولو ملكت عنان الريح اصرفه
في كل ناحية ما فاتك الطلب
ومن تطور واستعمال الاقيسة المنطقية قول الشاعر البحتري:
دنوت تواضعا وعلوت مجدا
فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد ان تسامى
ويدنو الضوء منها والشعاع
ومن حسن الابداع والتصوير الشعري الحسن قول الشاعر المجدد بشار بن برد متغزلا:
يا قوم اذنى لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت احسنت انت الشمس طالعة
اضرمت في القلب والاحشاء نيرانا
باتت تناولني فاهاً فألثمـــــهُ
جنيّة زُوّجت في النوم إنســانا
فاسمعيني صوتا مطربا هزجا
يزيد صبا محبا فيك اشجانا
يا ليتني كنت تفاحا مفلجة أو كن
ت من قضب الريحان ريحانا
ولو لاحظنا معاني الشعر في هذا العصر لوجدنا انها تطورت وتوسعت كثيرا الى حد لا يمكن حصره وتحديده بكلمات نكتبها عنه فمنها ما قيلت بحالة من الرقي والقوة والمتانة بعيدة عن الا بتذال والاسراف فكانت قصائد ذات معان راقية متطورة وخاصة تلك التي قيلت في المدح والفخر او تلك التي اختصت بالسياسة والاجتماع اوالتي قيلت الرثاء والهجاء والغزل المحتشم . ومنها من اكثر في الاسراف الى حد الغلو في المجون والابتذال وبالكلمات الرخيصة وخاصة تلك القصائد التي قيلت في الغزل والمجون والغزل بالمذكر وما اليها والتي لم تكن معروفة لدى الشاعر العربي اوكان يأنف ان يقول فيها قبل هذا العصر.
وكذلك ظهرت المعاني الفلسفية في الشعر فكانت في اغلب الاحوال معقدة وصعبة الفهم . الى جانب الشعر التعليمي وتأييد المعرفة او نشرها عن طريق الشعر .
وعلى العموم صارت ارضية المعاني الشعرية خصبة يتصرف بها الشاعر او ياتي بها على هواه وامتداد سعة خياله الذي حلّق في الافاق عند بعض الشعراء الخالدين . وكذلك ادخلت على الشعر الرموز الصوفية والفلسفية والاخلاقية وكانت بداية للرمزية في الشعر العربي وقد رقت معاني الشعر في الاغلب وكثرت فيه المحسـنا ت اللغويـة برقة الكلمات والبلاغية كالبديع والبيان والتشبيهات المختلفة والصناعة الشعرية
لاحظ قول ابي فراس الحمداني في التشبيه يقول :
لبسنا رداء الليل والليل راضع
الى ان تردى راسه بمشيب
بحال ترد الحاسدين بغيظهم
وتطرف عنا عين كل رقيب
الى ان بدا ضوء الصباح كانه
مبادى نصول في عذار خضيب
كل ذلك كان في اسلوبية شعرية اختلفت في هذا العصر لما اصابها من تقدم وتطور بحيث اصبح لكل شاعر اسلوبه الخاص او يكاد ان يكون هكذا فقد اختلفت الاساليب تبعا لنفسية الشاعر وحالته التي يعيشها و البيئة التي قيل فيها الشعر بعد امتداد الدولة العربية من الصين شرقا حتى بلاد الاندلس والمغرب العربي غربا فالبيئة الشرقية في فارس وشرقيها اساليب الشعر فيها اختلفت عما هي عليه في مصر والشام وبلاد الاندلس او المغرب العربي كما اختلفت اساليب شعراء الجد عن اساليب شعراء الهزل .
فالشعراء الجادون اسلوبهم فيه القوة والمتانة وحسن اختيار اللفظ والديباجة على غرار الاساليب الشعرية في العصور التي قبل هذا العصر مع فارق التقدم والتطور الذي شمل اللغة العربية وادابها على ايدي هؤلاء الفحول مثل المتنبي والمعري والحمداني والشريف الرضي وغيرهم بينما امتاز الشعر الهزلي بسهولة اسلوبه وسطحية فكرته وادخال الشعراء بعض الالفاظ الفارسية والعامية فيه .
الشعر عامة في هذا العصر غلبت عليه المحسنات اللفظية والبديعية وطغيان الصناعة اللفظية عند كثير من الشعراء فنجد الشاعر كانما ينحت نحتا في ايجاد الكلمة المناسبة واللفظة – صناعة شعرية - و اهتموا باللفظ على حساب المعنى وخاصة في شرق البلاد وفي بغداد وغيرها .
اما في الشام ومصر فقد ظل الشعر قويا متين البناء الا انه دخلته بعض الكلمات الغريبة والتعقيدات الكثيرة ودخلت اليه العلمية والفلسفة على ايدي بعض الشعراء مثلا الا انها سايرت التقدم الحضاري ولم تتوقف .
كما استمرت عملية التجديد التي ابتدات في العصر العباسي الاول على يدي بشار بن برد وزمرته فغلبت على الشعر النعومة والرقة عند كثير من شعراء هذا العصر بل اغلبهم لاحظ قول بشار يتغزل :
يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم:
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وقد ظهر شعر الموشح والزجل والمواليا حتى ان بعض الشعراء من ادخل اللهجات الدارجة او العامية في الشعر مع المحافظة على بيان وروعة وبلاغة العربية كل حسب مقدرته وكفاءته الادبية وثقافته اللغوية .
وكذلك ظهرت المعاني الفلسفية في الشعر فكانت في اغلب الاحوال معقدة وصعبة الفهم . الى جانب الشعر التعليمي وتأييد المعرفة او نشرها عن طريق الشعر .
امير البيـــــــــــان العربي
د. فالح نصيف الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز
********************
الشعر العباسي بين الكلاسيكية والتجديد - القسم الخامس
بقلم د . فالح الحجية
الاساليب والمعاني في الشعر
تنوعت اساليب الحياة وطرق الكسب والمعيشة وكان لكل ذلك
اثره الكبير في تطور تيار الشعر العربي بحيث ظهرت فنون شعرية جديدة لم تكن موجودة او معروفة . ووصفت الحياة ومظاهر الحضارة الجديدة على حالتها التي وصلت اليها من قصور ورياض ومواسم واعياد وقد ادى ذلك الى ارتقاء الشعر درجات على في سلم الثقافة العربية.
وتطورت اساليب الشعر العربي في العصر العباسي كثيرا جراء اطلاع الشعراء على الثقافات الاجنبية ونمو مداركهم وزيادة معلوماتهم وتطور الحياة الحضارية في هذا العصر فقد مال الشعراء الى استخدام الاساليب السهلة المفهومة المنسوجة من واقع الحياة المعاشة وابتعدوا عن اللفظة الصعبة او البدوية التي قل استعمالها او هجرت في الاغلب واستعملوا المحسنات البديعية والالفاظ الجديدة تبعا لتطور الامور وحتى وصلت الحال في بعضهم من استخدام الفاظ اعجمية في شعره وقد نشير ان مفهوم الأسلوب يعني الطريقة او السلوكية التي يتبعها الشاعر في نظم شعره فيقال مثلا سلكت أسلوبه وتعني طريقته وكما يقال كلامه أسلوبه الافضل .
و استعمل الشعراء المحسنات البلاغية و البديعية من طباق وجناس وتشبيه واستعارات وكثرت هذه بشكل ملفت للنظر في هذا العصر واول من استخدم هذه الامور بشار بن برد ومسلم بن الوليد ( صريع الغواني ) والبحتري وابو تمام وابن المعتز
ومن شعر بشار بن برد يقول :
جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه
وأزرى به أن لا يزال يصاحبـه
خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى
ولا لوعة المحزون شطت حبائبه
وحسنوا به اقوالهم الشعرية وكانت قبلهم تاتي هذه المحسنات عفوية على السنة الشعراء قبلهم وبالاجما ل فان الشعر في هذا العصر تطورا تطورا واسعا وعظيما في جميع اموره وفي شتى المجالا ت الادبية الشعرية واللغوية والفنية. يقول ابن رشيق القيرواني في كتابه ( العمدة ):
(... فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه ، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة . وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلماً أسهل شعراً من حبيب، وأقل تكلفاً، وهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة، وأكثر منها. ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم (صريع الغواني) إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين : كان يبطئ في صنعته ويجيدها وقالوا: أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد، وابن هرمة، وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره. ثم أتبعهما مقتدياً بهما كلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس. واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز؛ فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به. وشبه قوم أبا نواس بالنابغة لما اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة، وحسن الديباجة، والمعرفة بمدح الملوك. وأما بشار فقد شبهوه بامرئ القيس؛ لتقدمه على المولدين وأخذهم عنه) .
و كلمة الأسلوب التي تجري على ألسنة الشعراء والادباء والنقاد في بعض الاحيان والمراد بها التراكيب اللغوية بمعنى انفصالها عما تدل عليه من معانٍ كانت مضمرة في نفس الشاعر الاخر وهو إيهام يجعل من الأسلوب كلمات مرصوفة ذات حروف ومقاطع ربما تدل على فهم شيء للأسلوب حيث يهب الحياة والجمال أو الجمود والقبح لذلك النص او هذا .
وبالجملة هو طريقة التعبير بالألفاظ المترتبة على معرفة ترتيب المعاني في النفس في طريقة الأداء اللفظي لما ينسقه الفكر من معانٍ وينظمه العقل من أفكار ازاء الطريقة التعبيرية التي ترتبط بالمعاني اذ ان أول ما تحدث في هذا المعنى وأنه ربما يعتمد في نظريته على الاعتداد بمجموع ما يذكره في مواضيع مختلفة اذ إنه لا يتصور أن يعرف للفظ مواضع من غير أن يعرف معناه و أنما يتوخى الترتيب في الألفاظ - من حيث هي ألفاظ ترتيبًا وتنسيقا ونظمًا أي يتوخى الترتيب في المعاني ويعمل الفكر في انتقاء الالفاظ ويقتفي آثارها بحيث تترتب بخدمة المعاني وتبقى تابعة لها او لاحقة بها مع العلم بمواقع المعاني في النفس او بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق و يقوي النص في الأسلوب او بمعنى اخر هو الأداء اللفظي المطابق للصورة الذهنية لمفهوم الأسلوب الناجم عن قدرة الملكة في اللسان العربي بحيث يكون ثمرة الاعتماد على الطبع والالهام والتمرس على ايجاد الكلام البليغ الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ما يعتمل في قلبه ونفسيته من احاسيس وهنا تكمن وظيفة البلاغة والبيان .
فالأسلوب هو الصورة الذهنية للتراكيب المنظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وشخوصها بحيث يصيرها في الخيال كالقلب ثم ينتقي التراكيب الصحيحة على اعتبار النحو والبيان فينسقها فيه تنسيقا متراصا كما يفعله البنّاء في قالبه الخاص أو النساج في المنوال حتى يتسع ذلك بحصول التراكيب الاسمى بمقصود الكلام للحصول على الصورة الامثل والافضل والاقرب لملكة اللسان للشاعر العربي . لذا فلكل فن من الفنون من الكلام أساليب تختص به وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء وإنما هي حالة قد ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في الشعر العربي تجري كجريانها على اللسان كي تثبّت صوتها و صورتها المطلوبة في تقريبه إلى فهم المتلقي بشكل اسنى وافضل والتي تمثل منزلة الروح من الجسـد فالخيال في الأسـلوب بوسائله المسـتعارة وما يتصل بالمعنى اتصالا وثيقًا بطريقة مرنة من طرق التفكير حيث أنه الأداة الواضحة للتعبير فهو طريقة التعبير اللفظي الحادثة على تنسيق الفكرة والمعبرة عن أدق خفاياها ومدار جودتها أو انها طريقـة التنسـيق ومدى نهوضها بالمـعاني المعبـرة عما في دواخلها او ما تكتنفه من معان بليغة . لاحظ قول البحتري:
كأ ن الرياض الحور يكسين حولها
افانين من افواف وشي ملفق
اذا الريح هزت نورهن تضوعت
روائحه من فائر مسك مفتق
كأن القباب البيض والشمس طلعة
تضاحكها انصاف بيض مفلق
لقد صاغ الشعراء العباسيون أساليبهم في ضوء حضارة الدولة وثقافتها وطريقة تذوقها للفنون لذا جاء الأسلوب الشعري اقرب إلى الرقة في النسج والدقة في التصوير والدماثة في التعبير وشاعت في حواشيه ألوان من الزخرفة اللفظية وضروب من الزينة والجمال واكتنفت أنغامه حالة من الفخامة المؤثرة والتي قد تهز العواطف وتحرك المشاعر وتثير الاحساس . فالشعراء الاكثر تحضرا يميلون بطبعهم إلى الكياسة والزينة والانس في كل شيء فالطبع الحضري تستهويه الأناقة في كل ما حوله ويجذبه التأنق وتقربه اليها وهو ما يدلل على تطور هذه الأذواق ورقيها وهذا سبب قوي في ايجاد أسلوب شعري تركن اليه النفس لتستريح عنده في حسن صياغة أ نيقة مثل مرآة صافية وصقيلة عاكسة على صفحتها كل فنون الجمال والتنسيق الاسنى والافضل لاحظ قول بشار في ذلك :
ومخضب رخص البنا ن
بكى عليَّ وما بكيته
يا منظرًا حسنًا رأيـ ـت
بوجه جارية فديته
بعثت إليَّ تسموني
ثوب الشباب وقد طويته
ثم حالة جديدة ونقصد بها السهولة في الاسلوب ذلك الأسلوب اللين الذي يميل إلى العامية أو يؤثرها بعضهم وهذه السهولة ربما حاولها غيرهم في أساليبهم فيخفقون وينكصون عن الايتاء بمثلها وتستعصي عليهم وتمتمنع عنهم امتناعا ربما يكون عند بعضهم شديدا قد يسلمهم إلى اليأس وينتهي بهم إلى الحيرة المشوبة بكثير من الإعجاب.وهذا ما نسميه في مجال الشعر بالسهل الممتنع وقد نسج فيه كثير من الشعراء في هذين العصرين منهم ابو العتاهية :
لاحظ قوله :
كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ
طُوِيتْ عنه الكشُوحُ
صاحَ منه بِرَحِيلٍ
صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ
موتُ بعضِ الناسِ في
الأرْضِ على قومٍ فُتُوحُ
سيصير المرءُ يوماً
جَسَداً .. ما فيه رُوحُ
ومن الواضح في هذا العصر ميل الشعراء الى المبالغة والتهويل وربما كانت هذه بسبب الاختلاط االثقافي والتاثر بالاخرين وخاصة الفرس حيث تأصيل هذه الظاهرة و جذورها في تأثير الفرس وطغيان ثقافتهم، فقد كانوا مولعين منذ القدم بالإغراق في المبالغة، ووجد هذا الاتجاه صدى طيباً عند الخلفاء والامراء ، فاضطر شعراء العربية إلى مجارتهم كيلا ينفردوا بانعام الخلفاء عليهم مما تمتلئ به قصور الخلفاءر من امور التمتع واللذائذ. فأصبح هم الشاعر محصوراً في التفوق على غيره في الإبداع ونزوعه إلى الإفراط والتهويل . وكان المدح قد حظى بالنصيب الاسمى من هذه الحالة وقد امتدت منه إلى غيره من فنون الشعر .
وقد ترك اغلب شعراء هذا العصر كثيرا مما كان يسير عليه الشعراء في الجاهلية كاستهلال القصيدة بالغزل . ووصلت الامور الى ان تهكم بعضهم من هذه الطريقة واعتبروها بالية و سخروا من الشعراء الذين حافظوا عليها.
يقول ابو نؤاس :
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضر لو كان جلس
وكذلك لاحظ دخول الشعر بعض الالفاظ والاصطلاحات العلمية واللغوية كقول الشاعر ابو تمام في الخمرة:
خرقاء تلعب بالعقول حبابها
كتلاعب الافعال بالاسماء
وكذلك كثر استعمال المحسنات الكلامية البلاغية كالبديع والطباق والجناس والتشبيه الفردي و التصويري والاستعارات المختلفة وتفنن الشعراء فيها وتزيينهم لشعرهم بها كل قدر امكاناته اللغوية وقدراته البلاغية والشعرية وقوة شاعريته :
يقول البحتري:
فلم ار مثلينا او مثل شأننا
نعذب ايقاظا وننعم هجّدا
وكذلك كثر استعمال الكلمات الاعجمية في الشعر فوجد فيه كلمات اعجمية مثل الديباج او الفاذولج وخاصة الفارسية فالشاعر كأنه يتحدث إلى جمهور مزيج من العرب والعجم ويعيش في بيئة حضرية يقول ابو نؤاس :
لاتبك ليلى ولا تطرب الى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
وقال في الخمرة ايضا :
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم
او قوله :
بنيت على كسرى مدامة
مكللة حاناتها بنجوم
فأوردّ في كسرى بن ساسان روحه
اذاً لاسطفاني دون كل نديم
ويتبين مدى هواه الى الفارسية وحنينه الى المجوسية في شعوبية واضحة .
و في هذه البيئة الجديدة نجد انها :
اولا : قد ا بتعدت بالشباب الجديد عن صلابة حياة البادية وصعوبة أنماطها في الصحراء العربية فلم تعد ملكاتهم العربية الأصيلة وقابلياتهم النفسية قادرة على التماسك ازاء هذه التغيرات فلانت انفسهم واحوالهم بالحضارة العباسية وتأثروا بالوا فد الجديد الذي حبب السهولة إلى نفوسهم وخلطها بأذواقهم.
لاحظ احدهم يمدح الخليفة الرشيد فيقول:
من يلقه من بطل مسرندي
في زعفه محكمة بالسرد
تجول بين رأسه والكرد
لما هوى بين غياض الاسد
وصار في كف الهِزَبْر الورد
وثانيهما: أن الشعراء أنفسهم كانوا – غالبًا - من هذا المزيج ولكن مواهبهم الفنية كانت تعطفهم إلى النهج العربي الصميم وثقافتهم العربية وآدابها و كانت تشد من ملكاتهم فيما يتصل بالتعبير ولهذا كانت أساليبهم في يسرها من باب السهل الممتنع بما تضمنت من رقة آسرة وعذوبة خلابة. والشعراء الذين ا د خلوا هذه الالفاظ في الاغلب اما من اصل فارسي او يميلون الى الاصول الفارسية او لهم اطلاع واسع في اللغة الفارسية كابي نؤاس وابن الرومي وابن المعتز.
يقول ابن المعتز :
قم نصطبح فليالي الوصل مقمرة
كانها باجتماع الشمل اسحار
اما ترى اربعا للهو قد جمعت
جنك وعود وقانون ومزمار
ثم ا دخلت الى اساليب الشعر الفاظ فلسفية و علمية وكل ما احاط بالشعراء من امور ثقافية ومعالم وتطور وابتذال وقوة اسلوب وجد وهزل في شعر هذا العصر والشاعر من ابدع فيها واجاد .
.لاحظ قول ابي العلاء المعري :
اذا رجع الحصيف الى حجاه
تهاون بالشرائع وازدراها
فخذ منها بما اتاك لب
ولا يغمسك جهل في صراها
وهت اديانهم من كل وجه
فهل عقل يشد به عراها
وكان من اثار تطور الحياة العامة في العصرالعباسي ان تطورت الحضارة والثقافة والسياسة وتطورت تبعا لها معاني الشعر واخصبت اخيلة الشعراء وازدحمت بشتى معالم الحياة وتفنن الشعراء في معاني الشعر فقد تصرف الشعراء اولا بمعاني شعر الاقدمين قبلهم واضفوا عليها طابعا من الحسن والطرافة ورقة حواشي الصور الشعرية والبلاغية فاستخدم الشعراء اقيسة منطقية وتعبيرات لغوية تكاد تكون جديدة فيما البسوه لها من قشابة الالوان وتباين الانواع فاحسنوا التصوير والابداع واتسعت اخيلتهم الى افاق واسعة اضافية فجاؤوا بها وتظهر هذه الابداعات في التشبيه وسعة الخيال الشعري وما اكتنفه من اضافات في محسنات اللغة من طباق وجناس و بيان اضافة الى التراكيب اللفظية والصور الجميلة وتسلسل المعاني وتلاحمها فمن تصرف الشعراء بمعاني الاقدمين قول الشاعر سلم الخاسر:
فانت كالدهر مبثوثا حبائله
والدهر لا ملجأ منه ولا هرب
ولو ملكت عنان الريح اصرفه
في كل ناحية ما فاتك الطلب
ومن تطور واستعمال الاقيسة المنطقية قول الشاعر البحتري:
دنوت تواضعا وعلوت مجدا
فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد ان تسامى
ويدنو الضوء منها والشعاع
ومن حسن الابداع والتصوير الشعري الحسن قول الشاعر المجدد بشار بن برد متغزلا:
يا قوم اذنى لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت احسنت انت الشمس طالعة
اضرمت في القلب والاحشاء نيرانا
باتت تناولني فاهاً فألثمـــــهُ
جنيّة زُوّجت في النوم إنســانا
فاسمعيني صوتا مطربا هزجا
يزيد صبا محبا فيك اشجانا
يا ليتني كنت تفاحا مفلجة أو كن
ت من قضب الريحان ريحانا
ولو لاحظنا معاني الشعر في هذا العصر لوجدنا انها تطورت وتوسعت كثيرا الى حد لا يمكن حصره وتحديده بكلمات نكتبها عنه فمنها ما قيلت بحالة من الرقي والقوة والمتانة بعيدة عن الا بتذال والاسراف فكانت قصائد ذات معان راقية متطورة وخاصة تلك التي قيلت في المدح والفخر او تلك التي اختصت بالسياسة والاجتماع اوالتي قيلت الرثاء والهجاء والغزل المحتشم . ومنها من اكثر في الاسراف الى حد الغلو في المجون والابتذال وبالكلمات الرخيصة وخاصة تلك القصائد التي قيلت في الغزل والمجون والغزل بالمذكر وما اليها والتي لم تكن معروفة لدى الشاعر العربي اوكان يأنف ان يقول فيها قبل هذا العصر.
وكذلك ظهرت المعاني الفلسفية في الشعر فكانت في اغلب الاحوال معقدة وصعبة الفهم . الى جانب الشعر التعليمي وتأييد المعرفة او نشرها عن طريق الشعر .
وعلى العموم صارت ارضية المعاني الشعرية خصبة يتصرف بها الشاعر او ياتي بها على هواه وامتداد سعة خياله الذي حلّق في الافاق عند بعض الشعراء الخالدين . وكذلك ادخلت على الشعر الرموز الصوفية والفلسفية والاخلاقية وكانت بداية للرمزية في الشعر العربي وقد رقت معاني الشعر في الاغلب وكثرت فيه المحسـنا ت اللغويـة برقة الكلمات والبلاغية كالبديع والبيان والتشبيهات المختلفة والصناعة الشعرية
لاحظ قول ابي فراس الحمداني في التشبيه يقول :
لبسنا رداء الليل والليل راضع
الى ان تردى راسه بمشيب
بحال ترد الحاسدين بغيظهم
وتطرف عنا عين كل رقيب
الى ان بدا ضوء الصباح كانه
مبادى نصول في عذار خضيب
كل ذلك كان في اسلوبية شعرية اختلفت في هذا العصر لما اصابها من تقدم وتطور بحيث اصبح لكل شاعر اسلوبه الخاص او يكاد ان يكون هكذا فقد اختلفت الاساليب تبعا لنفسية الشاعر وحالته التي يعيشها و البيئة التي قيل فيها الشعر بعد امتداد الدولة العربية من الصين شرقا حتى بلاد الاندلس والمغرب العربي غربا فالبيئة الشرقية في فارس وشرقيها اساليب الشعر فيها اختلفت عما هي عليه في مصر والشام وبلاد الاندلس او المغرب العربي كما اختلفت اساليب شعراء الجد عن اساليب شعراء الهزل .
فالشعراء الجادون اسلوبهم فيه القوة والمتانة وحسن اختيار اللفظ والديباجة على غرار الاساليب الشعرية في العصور التي قبل هذا العصر مع فارق التقدم والتطور الذي شمل اللغة العربية وادابها على ايدي هؤلاء الفحول مثل المتنبي والمعري والحمداني والشريف الرضي وغيرهم بينما امتاز الشعر الهزلي بسهولة اسلوبه وسطحية فكرته وادخال الشعراء بعض الالفاظ الفارسية والعامية فيه .
الشعر عامة في هذا العصر غلبت عليه المحسنات اللفظية والبديعية وطغيان الصناعة اللفظية عند كثير من الشعراء فنجد الشاعر كانما ينحت نحتا في ايجاد الكلمة المناسبة واللفظة – صناعة شعرية - و اهتموا باللفظ على حساب المعنى وخاصة في شرق البلاد وفي بغداد وغيرها .
اما في الشام ومصر فقد ظل الشعر قويا متين البناء الا انه دخلته بعض الكلمات الغريبة والتعقيدات الكثيرة ودخلت اليه العلمية والفلسفة على ايدي بعض الشعراء مثلا الا انها سايرت التقدم الحضاري ولم تتوقف .
كما استمرت عملية التجديد التي ابتدات في العصر العباسي الاول على يدي بشار بن برد وزمرته فغلبت على الشعر النعومة والرقة عند كثير من شعراء هذا العصر بل اغلبهم لاحظ قول بشار يتغزل :
يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم:
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وقد ظهر شعر الموشح والزجل والمواليا حتى ان بعض الشعراء من ادخل اللهجات الدارجة او العامية في الشعر مع المحافظة على بيان وروعة وبلاغة العربية كل حسب مقدرته وكفاءته الادبية وثقافته اللغوية .
وكذلك ظهرت المعاني الفلسفية في الشعر فكانت في اغلب الاحوال معقدة وصعبة الفهم . الى جانب الشعر التعليمي وتأييد المعرفة او نشرها عن طريق الشعر .
امير البيـــــــــــان العربي
د. فالح نصيف الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز
********************