تفاحة آدم.
بقلم : محمد دريوش.
الجزء الأول.
ماذا يستطيع أن يفعل هذا الطين الذي يقف محدقا بي من داخل هذه المرآة اللعينة التي تشي بما فعلته السنون ببنياني؟
أتفرس مليا في ملامحه القمحية فلا أتعرف علي فيه، أبتسم فيبتسم، أرفع يدي ملوحا بالتحية فيقلدني، أعبس بوجهه فيبتسم شامتا ويطلق ضحكة مجلجلة تكسر صفحة المرآة :
- مارس طقوس حزنك وحدك ودعني أقتفي أثر نفسي.
لي حزني وشظف الحرف المتهالك أشربه عرقا كي أنسى كبوة الحصان، لي مداءات التيه أواري بطياتها سوءة هذا النص المستعصي على التماهي..سأكتبه بحبر الروح على صفيح البوح كي يدوم أطول، وأسقيه ملح المآقي كي يشتد عوده فلا تهز هامته هبة ريح ماكرة، سأبنيه حرفا فحرفا وأسفك دماءه نزفا فنزفا، ولن ترق قريحتي للبياض الذي جلل الفراغ الجليدي لدفاتري. أتأمل الشيب الذي غزا عنفوان كائن من فصيلة النوارس، أتأمل إصراره على أخذي إلى جزيرة الموت المشتهى، أتأمل وجوه العابرين نحو السماء دون حبيبات، أتاملني فأجدني لا أتزحزح عن صحوي قيد أنملة، وأجد حبيبتي بجانبي تدندن ما طاب من فيروزيات، وأجدني أمارس لعبة الغواية مع الحرف الطائش المتسكع، أغويه فيأتي ثم يرحل، فأعيد غوايته فيأتي ثم يعاود الرحيل، أهادنه وأصطبر على انتظاره طويلا، وتمضي السنون عجافا تجر بعضها إلى المسلخ وتهدي رقابها قراببين للمجهول..
ماذا أقول وقد مارس شيطان الكتابة سطوته على مداد المحابر؟ ماذا أقول وقد راهنت على الحرف كي تمتد جذوري عميقا بأرض القصائد؟ ماذا أقول وقد صحوت من غيبوبتي فوجدت نفسي بالأرض اليباب وحيدا وشريدا؟ ماذا أقول وقد أغرتني الكلمة بقضم تفاحة الحرف فطفقنا نخصف على دفاترنا من ورق القصيد، وكان صخب السطور ثالثنا فمارسنا خطيئة الكتابة..
رأيت ساعتها الحرف الملتاع يعض على أصابعه أسفا، رأيته يحزم حقائبه ليرحل بعيدا بداخلي عازما على ألا يعود..
إن سألكم أحد عني فإني تائه أبتغي "ألفا" يقيني شر نفسي، "ألف" الأنين المتربع على باء البوح أفاك ، والباء بكم متجذر بتيهي حيث التاء تتأوه من سطوة التدجين، تراقبها الثاء ثائرة تتضور موتا بعد أن أثخنتها جيم الجلاد جراحا. كيف للحرية بحاء يحتضر أن تتماهى مع خاء الخذلان و الخنوع بارتداء نقطة فوق جبينها دون أن تخجل؟
الدال دمعة حرى لأم ثكلى لم يسعفها القدر لمناغاة حفيد، وتلك الريح تحمل ما هزل من أحلامنا بفعل سوء نية اليأس المبيتة وتذروها بذال منقوطة، فتنبري الراء رافعة عقيرتها بصوت جهوري رافضة بنوذ التسوية، والراء رؤيا عصية على التأويل إلا إذا راود الحلم الرغبة في التجلي، فإن خالفتها بقية الحروف الرأي زهدت واكتفت بنقطة زادا لها بمحراب لازوردي الجدران، هكذا اعتزلت سين التسويف صارخة بوجه المتشاعرين:
-كن أو لا تكن..سياف واحد لا يكفي لشرعنة المجزرة..
وحين كلت من العض على المبادىء بالنواجذ، أشهرت شين التشاؤم، فتشبعت روحها بيأس مزمن لم ينفع شؤبوب أمل تسلل من كوة بالسماء ساعة الفجر في تليين ملامحه الحجرية..
حين زاغت قريحتي عن صاد الصراط السوي لناموس الأبجدية، لم أجل قشة يتعلق بها حرفي الغريق، وكان للبحر شهية نهمة في تقطيع أوصال قصيدتي اليتيمة، ومددت عبثا بصري يمبنا وشمالا لعلني ألمح يابسة أرسو عليها بأحلامي، وكنا ثلاثة لا رابع لنا، الموج والظلام وجسد متهالك تتقاذفه الأقدار، حينها علمت يقينا أن حرفي سيموت وسيصبح لقمة سائغة للأسماك، فسلمت أمري وكففت عن التجذيف ليأخذني التيار حيث يشاء، يا لهذه النهاية المرتجلة!؟..
مرت حياتي أمام عيني سريعة متسارعة النبضات، رأيتني وليدا بقماط أبيض كبياض الثلح، رأيتني أخطو خطوتي الأولى وأنبس بكلمتي الأولى:
- ماما..
والماما نقطة ضوء بدهليز الحياة المدلهم السواد.
ورأيتني يافعا أمارس شغب الجسد وحتمية استكشاف الأماكن الأكثر حميمية به، ورأيتني حالما أرسم غدا بلون الكرز، ورأيتني أبني قصورا من رمل تهاوت كما تتهاوى حبات خرز من سبحة انفرط خيطها، ورأيتني أستعير عمرا آخر لأن عمرا واحدا لا يكفي لكي أحب وأحب كما ينبغي، ورأيتني مستعمرة للشيب دون أدنى مقاومة، ورأيت الموت يتربص بحرفي عند مفترق العمر، ومت لأبعث كطائر الفينيق من رماد القصيدة...
الآن حصحص الحرف وصحا ضميره من سباته الشتوي، الآن هوى بضاد التضاد على المعنى المتفرد للوحي الذي انقطع..فليصمت هذا الضمير المرتشي، ولينكس أعلام تبجحه بصحوته المتأخرة.
أو كان لزاما علي أن أصدق توبته وهو الذي لم يصدقني القول قط؟ كيف استطاع مخاتلة جبن الحرف في الصدح بما يختلج بالسطور؟ كيف تأتى له التطبيع مع الكلمة وتبادل سفراء النوايا الحسنة؟
لم تكن لهذا الضمير نية حسنة قط، كلما استرعى انتباهه زوج من الجوارح على توافق، بث إشاراته المسمومة بأوصال الحقيقة..فالشك مقياس تقاس به قوة الزلازل بالقلوب.
وحين يشيخ ضاد الضمير يتوكأ على عكازة ليصير قادرا على إيجاد موطىء حرف تحت شمس الظهيرة، يمضي أيامه يحارب طواحين الهواء أملا في مساحة أكبر لاحتواء الوجع المترامي الأطراف..