** قصة قصيرة ** لحظة احتراق .. **
#حسن_علي_محمود_الكوفحي ... الأردن ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدّقتُ بالمفكّرةِ أمامي مليّاً ...
ثُمّ تناولتُ رزمةً من أوراقها .. وأخذتُ أعبثُ بها .. كرّرتُ ذلك عدّةَ مراتٍ .. وفي لحظة .. ما .. قذفتُ الرّزمةَ فزِعاً في جوِّ الغرفةِ .. وضغطتُ زرّ الباحثِ في دماغي .. وتركتهُ مضغوطاً ....
أتراني كنتُ أودُّ أنْ أكونَ ورقةً من أوراقها ؟؟ ..
ورقةٌ تنتظرها كلُّ الأناملِ والعيونِ .. لِتقرأها .. أو أن تنظرَ فيها مجرد نظرةٍ حتّى ولو كانت عابرةً ...
نعم .. أتمنى ذلك ! ... فقط لو لمْ تكنْ قد تجاوزها الوقت إلى غير رجعةٍ ...
حاولتَ بكلِّ ما أُتيتُ من مكابرةٍ .. أنْ أُلمْلِمَ شعثَ شجاعتي المبعثرةِ مع أوراق المفكّرةِ .. فيما أصداءٌ صاخبةٌ من تلك اللحظةِ ما زالت تجتاحُ بحروفها النّاريةِ دروبَ الكهرباء في جسمي ...
شيءٌ مؤلمٌ ألّا يبقى وقت .. والأشدُّ إيلاماً أنْ تكونَ الماضي والماضي فقط !! ... وطأطأتُ رأسي أمام تلك الأصداءِ منهزماً .. أجرجرُ أذيال الهزيمةِ .. وشعرتُ أنّني أنسحبُ من الوجود .. وأنكمشُ في نقطةٍ قصيّةٍ ضائعةٍ ما بين ذاتٍ هشّةٍ وكيانٍ مبعثر ...
وأخذتُ أدبُّ ببصري على الأرضِ كعجوزٍ فانٍ .. ورحتُ أحبو به شيئاً فشيئاً .. في عملية تسلقٍ لجدار الوقت غريبةٍ .. وإذ به يتعثّرُ بغتةً بساعةٍ مثبّةٍ في أعلى الجدار .. مَنِ الشّقي الذي وضعها في طريقي ؟؟ ...
وأمسكَ بصري الذي كاد يتحطّمُ من شدَّةِ الصدمةِ بعقاربها خشيةَ السُّقوطِ على الأرضِ ...
وراقتْ لبصري تلكَ الأرجوحةُ الدّوارةُ .. فانتشى وهو ينظرُ المعالمَ من فوق !! .. وبدتْ لي العقاربُ وبصري ملتحمٌ بها .. والأرقامُ المستكينةُ أسفلها كسيوفٍ تكادُ تهوي في أي لحظةٍ ...
وفجأة .. اندفعَ بصري مهووساً يعبثُ بالعقارب في كلِّ اتجاهٍ .. حتّى كلَّ وصار ينزفُ دماً ...
ونكصتُ ببصري إلى نقطتهِ القصيّةِ .. حيثُ الأوراقُ المبعثرةُ في جو الغرفةِ .. وأنا أحبو به وأكبو نزولاً .. وشعورٌ قاتلٌ رجعتُ بهِ ... شيءٌ مؤلمٌ حدَّ البكاءِ أن تحيَ بلا رأسٍ !.. لكن الأشدُّ إيلاماً أنْ تلغيَ رأسكَ خشيةَ سيفٍ من ورق !! ...
ولا إراديّاً طفقتُ أُفتّشُ عن رأسي في أقطار جسمي ... لمْ يدرْ بخلدي ولو للحظةٍ أنّي عشْتُ الذي عشْتهُ بدونِ رأسٍ .. فوقعت يدايَ على شيءٍ يشبهُ البطّيخةَ .. فتحسسته مراتٍ ولمْ أطمئنْ أنّ ما بين يديَّ رأسي الذي صحبتهُ عمراً طويلاً .. ولا أتذكّرُ منهُ إلا هذا التّكوّرَ كالكرةِ !! ...
وأخذتُ أعاودُ التّحديقَ بزجاجِ المنضدةِ أمامي .. لِأتيقّنَ من هيئةِ رأسي .. وكنتُ أرى في كلِّ مرّةٍ صورةَ طفلةٍ شقراءَ .. بعينينِ كالنّوار .. وقد بلّلهنّ الدّمعُ بإلهامهِ .. وجرى على الوجنتينِ لؤلؤاً يحرقُ كالنّار .. فهتفتُ من بينِ أكداسِ الخرائبِ في داخلي .. هذا ما تتمناهُ .. هيّا اقبضْ عليها بالعينينِ .. وترفّقْ ولا تمسْهَا باليدينِ .. أليسَ هذا ما تتمنى !!.. أنْ تبدأَ من جديد .. أن تعودَ طفلاً لمْ يسافرْ فيهِ الزّمنُ كلَّ هذه المسافةِ النّكدة ....
وتراءى لي ذاكَ الطفلُ العاري الذراعين والصدرِ .. حافي القدمينِ .. يجري في الحاراتِ كالمهرِ .. حتّى إذا ما تعبَ .. مدّ عودهُ النّحيلَ على التّرابِ وتمرّغَ بهِ .. وعفّرَ وجههُ ورأسَهُ بأنفاسِ الأرضِ التي أحبّها ...
أمّا إذا ما جنَّ عليهِ الليلُ .. ارتفعتْ وارتقتْ حاراتهُ وملاعبهُ إلى السّماءِ .. ما بينَ الكواكبِ والنّجومِ .. فيتقافزُ بينها بخفةِ الشِّهابِ .. ويحلّقُ كطائرٍ أسطوريٍّ .. حتّى إذا ما تعبَ بسطَ اللحافَ على عودهِ .. ولا تزال عيناهُ متعلّقتانِ بعناقيدِ السّماءِ .. فيما أصبعُهُ الصّغيرُ يعدُّ معشوقاتهِ واحدةً واحدةً .. فتلحظهُ الجدةُ .. فتنهرهُ وتنهاهُ ... إيّاكَ أنْ تشيرَ بأصبعكَ إلى السّماءِ وتعدَّ النّجومَ...
كيفَ هوتْ أحلامنا.. ولمْ تصلْ إلى مستوى أحلامِ الأطفال المدهشةِ !! ... كيف .. كيف ...
وضبطتُ يديَّ الآثمتينِ تمزّقانِ صورةَ الطفولةِ .. وأوراقَ المفكرةِ .. والسّاعة المثبتةِ في أعلى الجدار .. وأطلبُ فرصةً جديدةً .......