( مَحلّةُ رَمَادَه )
للأديب / محمد شعبان-؛-------
تلك هي المرة الأولى التي أحضر فيها لـ ( محلة رمادة ) تلك القرية الصغيرة الرابضة فوق هذه الجنة الخضراء مترامية الأطراف .. لا غاية لمد البصر فيها .. تماما كما حكي لي ( إحسان ) .. بعض التغيير نظرا للزحف العمراني المتزايد على البقعة الزراعية .. ( محل
---------؛---------ة رمادة ) .. إذن وصلنا .. هكذا تقول اليافطة على ناصية القرية .. جئتُ في صحبة ( إحسان ) يحدوني بعض فضول فقط للتعرف على ذلك المكان الذي عاش فيه أحلى سِنِيّ عمره ـ كما كان يقول ـ في طفولته وصباه وجزء من شبابه قبل أن ينتقل للمدينة ويتزوج وينجب وينقطع تماما عن قريته ومنشأه .. نعم نعم هنا على فواصل الحقول كان يسير ويجلس .. وهنا بجوار هذا البيدر وفي هذا الفضاء كان يلعب مع أصدقائه .. (آاها) هذا هو المسجد الكبير الذي كان لا تفوته فيه صلاة الجماعة .. عقب هذا الكبري الصغير مباشرة سنجد بيت العمدة .. تمام تمام .. هذا بيت العمدة وشجرة ( ست الحسن ) تحفُّ سورَه المرتفع، وبجواره ( مقعد العمده الكبير ) الذي يجتمع فيه مع الفلاحين لمناقشة أحوال القرية، لكن على ما يبدو أنه تحول لمحال تجارية ملابس وبقالة وأجهزة كهربائية .. ( ياااه ) كانت مسافة السفر إلى هنا طويلة جدا .. صدقًا لا أستطيع الحديث .. جف حلقي .. ودرجة الحرارة المرتفعة والرطوبة العالية أصابتا مني ما أصابتا؛ وأنا لم أعتد السفر لهذه المسافات الطويلة في مثل هذه السيارات الغير مكيفة الهواء، لكن ( هيييييييه ) ما باليد حيلة، واجب لابد منه .. لذا سأترك طرف الحديث لـ ( إحسان ) ـ كما كان يحب أن أناديه بدون ألقاب .. هو عوَّدني على ذلك ـ سأتركه يقص القصة كما كان يحب دائما أن يُسمعها لي من وقت لآخر على سبيل الاعتبار والعظة .. " القرية نبع الفضيلة والأخلاق الطيبة .. البيوت فيها كالأواني المستطرقة ينفذ بعضها لبعض وكأنها بيت واحد، والناس أسرة واحدة في الفرح والحزن .. الصغير يحترم الكبير ويجله .. وُلِدْتُ لشيخ القرية وإمام مسجدها الشيخ ( سالم أبو عُبَيِّد ) .. فَرِحَت القرية كلها بي، وما زلت في عيون الجميع واهتمامهم؛ لأن أبي ـ وهو الإمام العالم والفقيه الورع ـ كان محبوبا من القاصي والداني، لم أبلغ العاشرة حتى أتممتُ حفظ القرآن الكريم كاملا، وصرت أدور به على المجتمعات في كل المناسبات .. ذات مرة عاد أبي للمنزل يسوقه الحبور بصوت صبي سمعه يقرأ القرآن في أحد المحافل في قرية قريبة لقريتنا لكنه من كثرة الناس وتزاحمهم لم يستطع رؤيته .. أخبرته أنه أنا .. فرح بصدمةٍ أتت على وجهه فسالت دموعه العصية .. احتضنني، وأمرني ألا أكرر ذلك خوفا عليَّ من الحسد .. أطعته .. سمعت كلامه ونفذته وتلك كانت عادتي معه، لكن الناس لم تنفك تطلبني ـ وأنا في هذه السن الصغيرة ـ للخطابة أيامَ الجُمَع .. كانت وسيلة المواصلات الوحيدة هي الحمار .. كانوا يرسلون لي ركوبة مخصوصة لإيصالي للمسجد .. التحقتُ بالأزهر ، فذهبتُ للمعهد الديني بالمدينة وما زلت به حتى أنهيت الدراسة فيه، ثم التحقت بكلية دار العلوم حتى أنهيت الدراسة بها، ثم عملتُ بوزارة التربية والتعليم .. تعرفت بفتاة، فتزوجت بها وأقمت معها بالمدينة رغم رفض أبويَّ الشديد الزواج منها والانتقال للعيش بعيدًا عنهما .. أولُ أمرٍ أُعارضُ فيه والديَّ .. لم تسترح أمي يوما لهذه الزيجة ... حمدتُ الله أنهما لم تقيما معًا في بيتٍ أو بلد واحد وإلا أصبح حالي جحيما أكثر من اللازم .. صِرْتُ كلما ذهبتُ لهما في العُطْلات والأعياد يلومانني على بُعْدي عنهما وأنا ابنهما الوحيد لأخت واحدة متزوجة وتخدم في بيت زوجها، كنت أرى الحزن على وجهيهما كلما انقضت العطلة وهممت بمغادرة القرية .. يُلحّان دون طلب في المكث مدة أطول بحجة تجهيز بعض الفطائر والخبز الفلاحي وتنظيف الطيور وما شابه.. زيارة القرية المعتادة للمدينة .. كنت أحملها، وأعود بها وكان ينتظرها الجميع بشغف .. على الطرف الآخر كنت أحثُّ الخطى لزوجتي .. أحبُّها، ولا أحب أن أراها غاضبة، وأقول إن قلب الأم والأب أرحب وأرحم من قلب زوجة غضوبة تملأ الدنيا زعيقا وشجارا على أتفه الأسباب، وباتت الفترات بين زياراتي للقرية تتباعد شيئًا فشيئًا حتى اقتصرتْ على العيدين،وبعض المناسبات الاجتماعية من أفراح وأطراح لأقرب الأقربين .. ورغم أن زوجتي نادرا ما اصطحبتها في تلك الزيارات النادرة فهي لم تمنعني مرة عنهم ولا عن مساعدتهم .. سافرتُ مُعارًا للسعودية مرةً وللكويت مرة .. حجَّجْتُ أبي .. رمَّمْتُ منزله ـ رغم اعتراضه ـ .. حصَّلتُ مالية كبيرة .. عرض عليَّ أبي شراء قطعة أرض للبناء عليها كما فعل أصدقائي بالقرية ـ مع علمه باستحالة ذلك ـ .. لَكَمْ رغب أن أكون ـ وأنا مثار فخره في كل مجتمعاته ـ ظهرَهُ الذي يستند عليه، وذلك دأب القرية وأهلها .. رفضتُ وكان السبب زوجتي؛ التي هجرْتُ الجميعَ من أجلها أهلي ومنشأي وذكرياتي وأصدقائي، والتي اكتشفتُ فجأة أنني ومنذ تعرفي عليها منساقٌ لرغباتها .. رغباتها فقط .. لم يعد لي كلمة بالبيت، كما أن فترة غيابي في الإعارتين جعلتني بعد عودتي ـ كل مرة ـ أبدوغريبا في بيتي وأنا بين ابني وزوجتي وبنتيَّ .. عانيتُ الأمرَّين .. الكلمة كلمتُها والشورى شورتُها، ولأنني أقمت في بيت أهلها، ولأنها موظفة ولها راتبها،ولأنني تركت لها كل الأزِمَّةِ تُصرفها كيفما شاءت استقوتْ وتغوَّلَتْ، لم يعد لي رأي في أي شيء، حتى أنتجتْ ابنًا عاقًّا مُتسيبا.. أسرعَ من مرِّ السحاب شبَّ وطلب الزواج .. زوجتْه هي ـ على غير رغبتي ـ ومن حُرِّ مالي، بعدما فكَّت العديدَ من شهادات الاستثمار التي ادخرتُها باسمها من دمي وعرقي لشدائد الأيام .. وفي أقل من ستة أشهر طلق زوجته وأنفقنا على الطلاق ضعف ما أنفقناه على الزواج .. هذا ما جنيتُه على نفسي أيها الـ ؟؟؟... " ... ( أَأَأَأَأَ ) يكفي هذا .. هل تعلمون لماذا تركتُ (إحسان ) يحكي حكايتَه .. ( امْمْمْمْمْ ) .. لا أدري .. ربما لأني متعب فعلا من طول السفر .. أو لأنني مَلِلْتُ سماعَها منه بصيغة المتكلم عندما أكون أنا المُخَاطَبُ مُجْبَرًا لمَّا كان يستدعي أحدَ كبارِ العائلةِ .. كما أنَّنَا الآن في جنازة (إحسان ) نشيِّعُه لمثواه الأخير والاستغفار له خير ـ رحمه الله وأحسن عزاءنا في أَبِي ـ .. سعيكم مشكور !! .. ( وْوْوْ ) وللعلمِ ما زال جدي على قيد الحياة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعجاب تعليق