كفاءة
للأديب / محمد شعبان
بعد كل هذا العناء ... ـ الحمد لله ـ كنتُ أنا أول الحاضرين، لم يحضر أحدٌ قبلي صباحَ ذلك اليوم، لم أكن أتوقع ذلك، فاليومُ كان أولَ الأسبوع والبلد كلها وكأنها مهاجرة، والشوارع مكتظة بالبشر.. ألجأني حظي بـ (الأوتوبيس ) وسطَ الزحام وتلاحم الخَلْقِ داخله للالتصاق بشابة ترتدي بنطالا وقميصًا من نوع ( الاستريتش ) الذي يلتصق ويتحد مع كل خلايا وتفاصيل جسمها البض فظهرت وكأنها لا ترتدي شيئا، كان ذلك داخل حافلة عامة يرتادها البسطاء الذين لا يملكون أجرة ( التاكسي ) .. للحق هي لم تشتكِ ولم تظهر أي ردِّ فعل غاضب سِيَّما وقد اضطرني التدافع من الخلف للاستناد إلى مؤخرتها بخاصرتي عدةَ مراتٍ وكانت ( إممممم .. وااااو ) .. حاولتُ أكثرَ من مرةٍ الالتفات عنها لكنني لم أستطع .. الزحام يُضَيِّق على الجميع ولا يترك قيد أنملة لأحد يتنفس فيه، حتى أصبحتُ أنا وهي نسيجًا واحدًا .. بدا تجاهلُها تقديرًا منها لتلك الظروف الصعبة التي نمر بها داخل ( الأوتوبيس ) ..من وقت لآخر تنظر إلي، فأبتسم معتذرًا عن تلك الوضعية، فتجيب في هدووووء :ـ لا عليك لا عليك .. فجأة انتفض أحدهم عن كرسيه صارخًا :ـ هنا هنا أنا نازل هنا أفسح يا أخي أفسحي يا أختي مرروني .. قلت له :ـ حاول أن تمر من خلفي.. قال :ـ لا ـ يا خفيف الظل ـ أنا أريد أن أمر من هنا ومن هنا بالذات، أم هو حلال لك وحرام علينا أفسح أفسح خل لي الطريق .. كنت أودُّ أن أشرحَ لكم طريقة مروره من بيننا، لكن ليس هذا هو المهم، العجيب أنه وهو ينظر في عيني بعينٍ ويغمز بأخرى كانت يده تمر على مؤخرة الفتاة، و ( ااا )، والأعجب أن الفتاة كانت لا تشتكي ولا تظهر أي رد فعل غاضب .. ووصلتُ، وكنتُ أول الحاضرين، ومع ذلك أرجؤوا دخولي حتى آخر الوقت كنتُ آخر الداخلين .. صبّرْتُ نفسي ولم أحاول أن أنطق بكلمة واحدة ... ( آااااه ) نسيتُ أن أقول لكم إن الذي كان يُنَظّم دخولنا للجنةِ الاختبار للالتحاق بوظيفة موظف العلاقات العامة بالمؤسسة هو ذاته الرجل الذي قابلتُه بـ (الأوتوبيس ) ... ( هههههههه ) حظٌّ عكر ... أليس كذلك ؟! .. حظ باتَ يلازمني منذ تخرجي في (كلية التجارة ) .. دُرْتُ على العديدِ من الشركاتِ، والتي رفضَتْ طبعا تعييني لأنني حديث تخرج ولا أملك شهادات خبرة أو دورات تأهيلية في مجال ( إدارة الأعمال ) .. وكَحَالِ آلاف الخريجين فكَّرت أكثر من مرة في الالتحاق بأي مصنع من المصانع وأباشر أيَّ خطِّ إنتاج به، ولتذهبْ الشهادة إلى الجحيم، وتبًّا للعمر الذي ضيَّعتُه في تحصيلها، فلقد سئمت وضعي كعاطل يمد يده كل يوم لأبيه ليأخذ ثمن مشروباته على المقهى .. حقًّا كان وضعًا بائسًا بكلِّ المقاييس، ومثيرًا للشفقة، لكن ـ صدقًا ـ أعتبر وضعي الآن أكثر إثارةً للشفقة .. دعوني أكملُ لكم .. انتظرتُ طويلا طويلا حتى شَرُفْتُ بلقاء لجنة الاختبار جلستُ أمامَهم، ووقف إلى جوارهم الرجل صاحبنا .. همس في أذن أكبرهم سنًّا ، ثم التفتا لي سويًّا، وفجأةً بعينين متسعتين بارقتين تنذر بشؤم ، أوقعتْ نظرتهما الرعب في قلبي، وطفق الجميع يتهامس ..عندها تمنيت أن لو انشقت الأرض وابتلعتني ، ولا أخفيكم سرا، فلقد كانت هذه أمنيتي منذ وقعت عيني في عين الرجل لأول وهلةٍ فصرتُ كُلَّما خرج من غرفةِ اللجنة ألصق ناظري بأرضية باحةِ الانتظار حتى يرحل مع المُمْتَحَنِ التالي ،وبدأتُ ـ وأنا بالغرفة ـ أتعرَّقُ من كل مساماتي، واستحال الجو بالغرفة صيفًا قائظا ونحن في أوج الشتاء ، تناولتُ ملف أوراقي الذي لم ينظر فيه أحد منهم بهدوء وأنا أهُمُّ واقفًا .. في تلك اللحظة بالذات وجدتُني أردد في خَلَدِي :ـ ( ليت أمي لم تلدني ليتها كانت عقيمًا) .. ربما تسَّاءلون :ـ لماذا لم تُهَدِّد ذلك الرجل بفضحه بما تعرفه عنه ، وقد أثار رعبك كل هذا الوقت ؟ .. صدقوني ما كان هذا ليفيد، ثم إننا نسكت كثيرا عن من بيده تسيير أمورنا، أوعقدها خوفًا من بطشه، وعمومًا لم أكنْ لأُقبل في تلك الوظيفة أصلا وجُلُّ المتقدمين ذوو خبرة وكفاءة، وقد تحدثت إلى بعضهم أثناء الانتظار، وبَقِيتُ أُصدم بابتسامات الرضا والأريحية التي كانت ترتسم على وجوههم بعد اللقاء باللجنة .. أكثر من ثلاثين ابتسامة، أو قولوا ثلاثين سهمًا نافذا في قلب حماستي وآمالي، حتى دخلت على اللجنة وأنا أتوقع الرفض مسبقًا ولابد، ثم خرجت تدفعني الخيبة، ومن خَلفي صاحبُنا يلاحقُنِي بخبرٍ صاعق قائلًا:ـ استعدْ ـ يا بطل ـ فأنت معنا بالعلاقات العامة ...
ومنذُ ذلك الحين وأنا بالعلاقات العامة، وأركب (الأوتوبيس ) من وقت لآخر وأتزاحم فيه من بابِ تحسين العلاقاتِ العامةِ للمؤسسةِ أيضا، كما كان يفعل صاحبنا تمااااما!!.. أليس هذا مثيرا للشفقة أكثر؟! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتمت