مأزقٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
الصداع يكاد يفتك برأسه، تاجر المواشي الشهير لا يدري شيئًا عن ليلة الأمس، كانت أمسية عصيبة، بعد يوم قائظ وقبيل غروب الشمس، تلبدت السماء بالغيوم، وهطل مطر غزير لم ير مثله من قبل، اضطر للجوء إلى أقرب فندق، لم يشعر برغبة في طعام أو شراب؛ لكن البرد القارس منعه النوم، فنزل إلى المقهى يلتمس مشروبًا؛ يعيد الدماء إلى شفتيه الزرقاوين، ويطرد عن أطرافه الرعشة التي اعترتها، ولم يغنِ معها تدليك راحتيه ببعضهما ولا النفخ فيهما.
بدأ الخدر يتسلل إلى جسده بتأثير الحشيش الذي خلطه بالنارجيلة، وبعينين زائغتين لمح على الطاولة المقابلة أشباحًا ثلاثة، يلعبون الورق ويتهامسون، أقلقته نظراتهم ورابته همساتهم، لكنه لم يعتد الخوف من أمثالهم، لقد حباه الله بسطة في الجسم تجعله يلوكهم في وجبة واحدة، آثر أن ينشغل عنهم بالحديث إلى النادل، بدا له مرتبكًا يكاد يُسقِطُ المشروبات قبل تقديمها، وينظر في ساعته من حين لآخر كالمحموم، لم يفلح في استجلاء سر ارتباكه، ثم لم يلبث أن غاب عن ناظريه ولم يره ثانية.
لا يدري كم امتد به المقام في المقهى، ولا متى عاد إلى فراشه، كل ما يذكره أنه وثب في الصباح وقد لسعته أشعة الشمس، وانطلق إلى السوق وقد كاد أن ينفض، أتم الصفقة التي جاء من أجلها بنجاح، مد يده ليخرج حافظة أمواله الجلدية فلم يجد إلا الهواء، راح يدخل يده في الصدرية ويخرجها كالمجنون، أدرك البائع المأزق الذي ألم به، كان يعرفه من مدة طويلة، وأبوه يعرف أباه، أمضى الصفقة، وشحن له المواشي على أن يسلم السائق الثمن لدى عودته لداره، تصبب العرق منه وهو يتمتم بالشكر.
بهت حين رأى النادل يطرق بابه بعد ثلاث، ازدحمت عشرات الأسئلة في رأسه: أيكون النادل سرقه في تلك الأمسية؟ هل دس له مخدرًا إضافيًا في الشراب؟ هل يعمل لحساب الأوغاد الثلاثة الذين لم يرتح لمرآهم في المقهى؟ لكن ما الذي أتى به؟ هل ندم على فعلته؟ هل يخطط لجريمة أكبر؟
قطع عليه تفكيره صوت ضيفه، يعاتبه على عدم دعوته للدخول، على رشفات الشاي أخبره أن أمرأته كانت في المخاض، وليس معه ما يجلب لها به طبيبًا، طلب سلفة فرفض رئيسه في العمل، كما رفض أن يغادر مبكرًا، بل وسخر منه قائلًا: - فهمنا أن امرأتك في حالة وضع، فماذا ستفعل أنت؟ هل ستلد معها؟
كاد الملل يقتله في انتظار تفسير هذه الزيارة الغريبة؛ لكنه كظم غيظه، وتركه يستأنف الحديث:
- لم أتمكن من إيقاظك وحدي، فاستعنت بالشباب الثلاثة، وحملناك إلى غرفتك بشق الأنفس، وعدت لأنظف المكان؛ لكني كنت مشغول البال بامرأتي، فطلبت من زميل لي أن يتولى التنظيف، وقفلت مسرعًا إلى داري، لتبشرني القابلة بمولود جميل، أتانا بعد صبر سنين.
- مبارك
لمعت عيناه في سرور طافح، وهو يرد المباركة ويمد يده إلى صدريته، فيخرج لفافة ويناوله إياها قائلًا:
- جاءني زميلي في الصباح بمستحقاتي، وأخبرني باستغنائهم عن خدماتي، وأعطاني متعلقاتي ومعها حافظة جلدية؛ لم يفتحها إلا أمامي، فلما وجدت بها نقودك وأوراقك أتيتك بها.
فض الرجل اللفافة، ونظر إلى الأوراق بداخلها، ولم يصدق عينيه؛ كما لم يصدق من قبل أذنيه! حاول أن يكافئ الرجل على أمانته فأبى، وانصرف، والتاجر يتساءل: هل هذه النوعية من الناس ما زالت لم تنقرض بعد؟ ثم انقلب من وداع زائره وقد أضمر أمرًا.
أحمد عبد السلام - مصر