لقاءٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
فتحَتِ البابَ على وجلٍ، تسللتْ بهدوءٍ، تلاقتِ الأعينُ، توقفتْ الحركةُ، صدَّتْها يدُهُ المشيرةُ بِالانصرافِ. خرجَتْ على عجلٍ، أغلقَتِ البابَ وراءَها بِهدوءٍ، ومراجلُ الغضبِ تغلِي في صدرِها.
الحسناءُ القادمةُ من أقاصِي الجنوبِ؛ لِلدراسةِ الجامعيةِ، لم تبهرْها أضواءُ المدينةِ، لم تحركْ قلبَها كلماتُ الإطراءِ، ونظراتُ الإعجابِ؛ التي تلاحقُها، وتشنفُ آذانَها أينَما حلَّتْ.
نسجَتْ حولَ نفسِها شرنقةَ من تقاليدٍ وقيمٍ؛ استمدتْها من تربيةٍ رفيعةٍ، جمعَتْ بين الأصالةِ والمعاصرة.ِ والدُها من أعيانِ البلدةِ، أسرتُها من الأسرِ الضاربةِ بِجذورِها في الأصالةِ والنبلِ، طموحُها أكبرُ من سنِّها، ما كان لِيملأَ عينَها أحدٌ من زملائِها؛ وإنْ بالغَ في التأنقِ؛ أو تشدقَ في الحديثِ، لم يطمعْ في صداقتِها زميلٌ. حتى أترابِها من الطالباتِ، تملكتْهنَّ الغيرةُ من جمالِها، وسعةِ اطلاعِها، أطلقْنَ عليها لقبَ (القُفلِ)، ونعتْنَها بِالتخلفِ والتزمُّتِ، أضحَتْ مادةً خصبةً لِلتفكُّهِ، والسخريةِ في مجالسِهنَّ.
لفتَ نظرَها أستاذُها الوقورُ،العائدُ من شهورٍ بعدَ غيابِ سنواتٍ طويلةٍ، أنهَى فيها رسالةَ الدكتوراه، وقامَ بِالتدريسِ في عدةِ جامعاتٍ، ولم ينتبِهْ إلى أنَّ قطارَ العمرِ، قطعَ بِهِ شوطًا طويلًا، حتَّى قاربَ عقدَهُ الرابعَ؛ ولم يزلْ عزبًا. جمعتْهما قاعةُ الدرسِ. بينهما مسافةٌ طويلةٌ في السنِّ، والمركزِ، والثقافةِ. يشتركان في الطموحِ، والنقاءِ، والتربيةِ المحافظةِ.
أعجبتْهُ مشاغباتُها العلميةُ في قاعاتِ الدرسِ، تناقشُ في جرأةٍ، وتتمسكُ بِرأيِها، وتستندُ إلى إطلاعٍ واسعٍ؛ اكتسبتْهُ من ساعاتِ المطالعةِ الطويلةِ في المكتباتِ، حينَ كانتْ زميلاتُها يتسكعنَ في المتنزَّهاتِ، أو على المقاصفِ بِرفقةِ الشبابِ. راقَ لهُ سلوكُها، فراقبَها خفيةً. شدتْهُ بساطةُ ملبسِها، وحسنُ خُلقِها، وقلةُ اختلاطِها بِالغيرِ، وتركيزُها على التحصيلِ العلميِّ.
تعلقَتْ بِالشيبِ الذي يزيدُه وقارًا، تعجبُها آراؤهُ الجديدةُ والجريئةُ، لا مبالاتُه بِالفاتناتِ اللاتِي يحُمْنَ حولَهُ، يتزاحمنَ على مكتبِهِ بعدَ كلِّ محاضرةٍ، يسألنَ ويجيبُ في جديةٍ وتمكنٍ، لا يتخللُ الحديثَ في حضورِهِ هزلٌ، ولا هذرٌ.
يوم منعَها وآخرين من دخولِ القاعةِ بعدَهُ، أظلمَتِ الدنيا في عينيْها، تخيلَتْ الهمساتِ الهازئةِ التي لم تسمعْها، والنظراتِ الشامتةِ التي لم ترَها، النكاتِ الساخرةِ التي لم تشهدْها، تمنَّتْ ساعتَها لو تنشقُّ الأرضُ وتبتلعُها، وقررَتْ أنْ تمتنعَ عن الحضورِ لَهُ حتَّى آخرِ العامِ. المحاضراتُ التاليةُ التي افتقدتْها عيناهُ فيها، مرَّتْ كئيبةً ثقيلةً، فقدَتِ الطعمَ، واللونَ، والرائحةَ. كان لا بدَّ من منعِهم بِلا محاباةٍ. بعضُ الألمِ خيرٌ من انهيارِ النظامِ. و مرُّ الدواءِ مع الشفاءِ، أرحمُ من استمرارِ الداءِ. جالَتْ عيناهُ في القاعةِ، تبحثانِ عنها، لعلَّها غيرَتِ المكانَ الذي اعتادَتِ الجلوسَ فيهِ، خلعَ نظارتَهُ ومسحَها عدةَ مراتٍ دونَ جدوَى.
أرسلَ يستدعِيها إلى مكتبِهِ، لم يعتذرْ ولم يُطلِ الحديثَ، لكنَّ عينيْهِ باحَتا بِكلِّ شئٍ، احترمَتْ ثباتَهُ على مبادئِهِ مهما جاءتِ النتائجُ أليمةً، وعدتْهُ بِمعاودةِ الانتظامِ في الحضورِ، تنبأَ لها بِمستقبلٍ باهرٍ، ومكانةٍ مرموقةٍ في الجامعةِ. رقصَ قلبُها طربًا حين سألَها عن أهلِها، وعنوانِ بيتِها.
صدمةُ اللقاءِ الأولِّ ما كانتْ لِتشيَ، بِما سيؤولُ إليْهِ حالُهما بعدَ سنواتٍ. فقد استدارَ الزمانُ، ليجمعَهما في باقةٍ واحدةٍ: زوجيْنِ في البيتِ، وزميلينِ في قاعاتِ التدريسِ بِالجامعةِ.
أحمد عبد السلام_مصر