بين الماضي والحاضر ... حسين علي يوسف عبيدات
الحياة الإنسانيّة مسيرة تبدأ خطواتها الأولى في رحم الأمّ. قد لا تكون واعية بالشّكل المطلوب، لكنّها تحدّد الوجود بالفعل بعد أن كان وجوداً بالقوّة. وينمو الإنسان جسديّاً ونفسيّاً وروحيّاً، فيتأثّر بكلّ ما هو خارج عن مسكنه، فيحمل في جيناته موروثات معيّنة، كما يتفاعل مع تأثّرات والديه، السّلبيّة منها والإيجابيّة. ونرى أنّ الجنين وهو في أحشاء أمّه يتفاعل مع غضبها وفرحها، فيهنأ لسماع موسيقى معيّنة، ويغتبط للمسة حنان، وينتفض لضغط عصبيّ أو نفسيّ. هذا الجزء من حياته الّذي يقضيه في مكان هادئ، آمن، لا يحتاج فيه إلى مجهود كي يحصل على حاجاته لينمو، كما أنّه لا يتمكّن من ممارسة مجهود عقليّ ليتفحّص ما حوله، ولكنّ هذا الجزء من الحياة ما قبل الولادة بدأ يشكّل جزءاً مهمّاً من ماضي الإنسان.
مذ يولد الإنسان، ومع استنشاق النّفس الأوّل، يصطدم بأوّل تجربة قاسية مع الحياة، ألا وهي فقدان المكان الهانئ الّذي كان يحيا فيه، فبكاؤه الأوّل وإن كان نتيجة تدفّق الهواء إلى رئتيه، إلّا أنّه يعبّر أيضاَ عن قلق من التّغيير المفاجئ. كذلك، يتحرّك في داخله الشّعور الإنسانيّ، ليحسّ بقسوة الواقع. فيشعر بالخوف والاضّطراب فهو الآن بحاجة لأن يطلب حاجاته من أكل ونوم، إلى آخره. كلّ هذه التّأثيرات بإيجابيّاتها وسلبيّاتها، تبدأ بتشكيل مبدئيّ لشخصيّة الإنسان.
ويمرّ الإنسان بمراحل عدّة منذ طفولته الأولى، من خوف وخجل، وغضب وفرح، واكتفاء وطمع، ولين وعناد. ولا يمكننا أن نتكلّم عن طباع عند الإنسان قبل بلوغه الثّامنة أو التّاسعة من العمر، إذ إنّه يتدرّج بمراحل عدّة، ويتأثّر بظروف معيّنة تحيط به. ولا تتكوّن شخصيّة الفرد بشكل كافٍ إلّا بعد أن يمرّ بهذه المراحل المتعدّدة. ولا ننسى الظّروف الّتي يخضع لها الإنسان، من عائلية واجتماعيّة، تؤثّر في تكوينه النّفسيّ بشكل أساسيّ، كما تؤثّر في نموّه العقليّ والذّهنيّ. ونلاحظ هذا بشكل جليّ، إذ نميّز بين طفل متأقلم مع محيطه وآخر عدائيّ، وطفل جريء وآخر منغلق على ذاته. ويمكننا أن نلاحظ مدى رغبته في اكتشاف ما حوله وهي رغبة العقل في المعرفة، وخوض تجربة شخصيّة في اكتشاف العالم الّذي هو محيطه الصّغير. ثمّ يخرج إلى العالم الأكبر (المدرسة) حيث سيتفاعل مع أفراد جدد، مختلفين عنه فكريّاً وسلوكيّاً. وتبدأ تجربة أخرى لعلّها أقسى من الأولى، ولكنّها تساهم إلى حدّ بعيد في استفزاز الانفتاح العقليّ والنّفسيّ لدى الطّفل وذلك بمشاركته للآخر وانفتاحه عليه.
تتوالى المراحل، من الطّفولة، إلى المراهقة، حيث ينتفض الجسد ليعلن التّغيير والبلوغ، وتنتفض الرّوح باحثة عن الحرّيّة والاستقلاليّة، ويثور العقل على مبادئ وتقاليد مكتسبة، ويبدأ بشقّ طريق مستقلّة نوعاً ما بهدف تحقيق الذّات. وقلّما نهتم بثورة المراهقين، ونعتبرها عبئاً كبيراً فنواجهها بكلّ قوّتنا مع أنّنا لو أحسنّا التّفكير، لاستفدنا من انتقاداتهم ومعارضتهم، ووجّهناها بالحوار الصّبور والمحبّ.
هذه المرحلة، ورغم خطورتها وصعوبتها، وأكاد أقول، رغم مأساتها، إذ إنّها تشكّل المرحلة الأخطر في حياة الإنسان، هي الأجمل والأنشط. فهي تحمل كلّ الصّراعات الجسديّة والنّفسيّة والرّوحيّة، وأعتقد أنّها تجربة قاسية على النّفس، فهي تتأرجح بين التّوق إلى الاستقلاليّة، والحاجة إلى الدّعم، بين الانطلاق بحرّيّة، والرّغبة في الاهتمام، وبين الثّورة على التّقاليد سواء أكانت دينيّة، أم اجتماعية، أم ثقافيّة، وبين البحث عن برّ الأمان.
ويلتفت الإنسان النّاضج إلى الوراء، إلى الماضي الّذي تشكّل، بإرادة حرّة منه، أو غير حرّة، وبناء على ما حمل هذا الماضي، إمّا يختار أن يستسلم له، وإمّا يحاول بذاته العقليّة والنّفسيّة، أن يعيد تشكيله وفق ما يتناسب مع قدراته وطاقاته. وقد يبلغ أحياناً أقصى التّطرّف ليرفضه بكلّيّته، أو الاستسلام له أو معايشته ذهنيّاً ونفسيّاً على أن يفكّر فيه إيجابيّاً، فيستخلص منه العبر، ليرفع من حسناته، ويحاول تحسين سيّئاته. وهذا يعتمد على قدرة الإنسان النّفسيّة والفكريّة، في استيعاب الواقع انطلاقاً من الماضي. وفي محاولة للوقوف أمام الذّات بصدق، للاستفادة من الأخطاء السّابقة، وتفعيلها إيجابيّاً في الحياة الآنيّة.
ما من إنسان مرّ في هذه الحياة دون ارتكاب الأخطاء أو حتّى الانغماس فيها. ولعلّني أميل للاعتراف بفضل الأخطاء، فهي تصقل شخصيّة الإنسان، وتدفعه لاكتشاف قدرته على الأفضل، إذا ما فكّر فيها إيجابيّاً. وقد يؤكّد لنا الحاضر مدى أهمّيّة هذه الأخطاء، عندما نبلغ من النّضج ما يكفي لنكتشف خبرتنا الشّخصيّة.
لا يمكن لإنسان أن يصيب أو يخطئ مدى حياته، وإلّا انتفت عنه إنسانيّته. بالمقابل، نحن نكتشف الصّواب من الخطأ، والجمال من البشاعة، والحقّ من الباطل، والحرّيّة من الأسر.
إذاً، ارتكاب الأخطاء يساهم في تشكيل شخصيّتنا وتكوينها، شرط ألّا يعجبنا الخطأ فنستمرّ في ممارسته. وكلّ منّا في داخله، يعي بحسّه الإنسانيّ، متى يخطئ ومتى يصيب، حتّى ولو أخفى ذلك.
ثمّ يتجلّى الحاضر وهو الماضي القريب، إذ إنّ مفهوم الحاضر ملتبس، فهو يؤسّس للمستقبل، ولكنّه ماضٍ. فاللّحظة الّتي نحياها وتمضي، أصبحت من الماضي. والمستقبل مجهول، مهما اجتهد الإنسان في معرفته، ومهما أصغى إلى ثرثرات من يدّعون امتلاكه، إلّا أنّه مبهم، وغير أكيد، وأحياناً يخيّب الظّنون.
كثيراً ما نخطّط لمستقبلنا، ونواجه حواجز كثيرة تعيق مسيرتنا. وغالباً ما نرسم طريقاً ونختار خطواتنا بشكل مدروس، ونلقى في نهاية المطاف ما لا يرضي طموحاتنا، أو أهدافنا المرجوّة. وأكثر ما يؤلم الإنسان هو أن يحيا نضجه في واقع أو حاضر يرفض هذا النّضج ولكنّه ملزم بالتّأقلم معه. فمسيرة الإنسان تتكلّل بالنّضج ولكنّ بعد اختبارات كثيرة وعميقة، وتجارب قاسية ومؤلمة، ولحظات أفراح وأتراح. ومتى وصل إلى مرحلة النّضج على المستوى العقليّ والنّفسيّ والرّوحيّ، يصطدم غالباً بواقع غير مرغوب فيه، فالحياة تمرّ من قربه دون أن تعلن له أسرارها، ويبقى هو في حالة اكتشاف لها. هذا الألم الإنسانيّ، يزيد من إبداع الإنسان، وخلقه، ولكن في داخله حنين للعودة إلى الوراء ليحيا الماضي بنضج اليوم.
إذا كان الحاضر يفلت من أيدينا والمستقبل مجهول وغير أكيد، فالحقيقة الوحيدة في الحياة الإنسانيّة هي الماضي. فالماضي صديق الإنسان، بكلّ ما يحمل من آلام وأوجاع، وأحزان وأفراح، وقسوة وظلم، وسعادة ورخاء. إنّه الصّديق الأمين، المرافق الدّائم للإنسان في كلّ خطواته. ويستعيده ويستعين به في كلّ شيء، حتّى في لحظات النّضج الكامل، فالفضل في النّضج يعود إلى الماضي.
ليس المطلوب أن نعيش في الماضي، وإنّما مع الماضي، والفرق شاسع. فالعيش في الماضي يأسر الإنسان في سجن اليأس ويحول بينه وبين نظرته نحو المستقبل، ويمنعه من الانطلاق نحو الأفضل. أمّا العيش مع الماضي، فهو كمن ينظر في مرآة السّيّارة، اّلتي تساعده على النّظر إلى الخلف، كي لا يصطدم بسيّارة أخرى.
العيش مع الماضي هو أن نستشفّ ما كان سيّئاً فيه، لنبني إنساناً أفضل. وبين الماضي والحاضر والمستقبل، نمتلك اللحظة. فالماضي وراءنا، والحاضر يهرب منّا، والمستقبل بعيد. وحدها اللّحظة الحاضرة، وإن مرّت سريعاً، تمكّننا من خلق الفرح.
فلنمتلك جمالها، ونحيا عذوبتها، ولا نضيّعنّ فرصة واحدة باستنفاد كلّ الفرح منها، فنسرّبها إلى الماضي، لتضفي عليه جمالاً، يخطف منه الألم، ويبعثه سعادة لمستقبلنا.