( من عجائب دفتر توفير )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة قصيرة لـ / محمد شعبان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تكنْ لتحبَّ أن تنظرَ إلى وجهي قبلَ أسبوعين ، إذ كنت مستسلما لوطأة الحزن ، وبطش الهموم التي فرضها العوز والحاجة ، وهذا حال أب مُطالَبٌ بتجهيز إحدى بنتيه اللتين ليس له في الدنيا غيرهما، وهو لا يملك ما يقدمه ، لكن اليومَ ـ كما ترى ـ دُخْلتُها وزفافُها ، وأنا فرحان جدااااا ههههههه ، وسوف لن أتوقف عن الرقص هذه الليلة، إنها ليلة ابنتي التي كنت أنتظرها .. هيَّا هيَّا ارقص معي لو تحب ، لكن تعاااال .. تعال أولا نجلس جانبًا بعيدا عن هذا الصخب أقص عليك القصةَ .. قبلًا اسمعْ .. هذا سر بيني وبينك أنا لم أخبر به أحدا حتى زوجتي ههههههه ... يااااااه ما أكرمَكَ يا ربي ! ... قبل أسبوعين ذهبتُ للمصرف ومعي دفتر التوفير ، الْتَوَتْ قدمُ العجوزِ على السلم .. كاد أن يسقط لولا أني أمسكتُ يده ورفعتُه من إبطه .. استند علي كتفي يتهادى حتى أوصلته لباحة الانتظار وهناك أحضرتُ له رقمًا، وكان رقمي هو التالي له مباشرة ، وأثناء دقائق الانتظار طفق العجوزُ يحكي لي قصته وسببَ حضوره اليومَ للمصرف .. عجوز يقطن في نُزُلِ المسنين منذ عشر سنين لا ولد له ولا بنت ولا أحد يسأل عليه مطلقا .. مقطوع من شجرة .. سيَّلَ كلَّ ما يملِكُ نقودًا وكنزها هنا بالمصرف .. منذ فترة راودته ذكرى زوجته المتوفاه وحُسنُ عشرتِها وأعوام زواج أمْضَياها معًا في سلامٍ ووئامٍ ، فسحب جزءا من المال، وجهَّز به غرفة في مستشفى السرطان صدقةً جاريةً عنها ، لكنه اليوم حضر ليسحب جزءا آخر ليتبرع به لإحدى الجمعيات الخيرية التي تهتم بزواج غير القادرين وتجهيزهم .. نُودِيَ على رقمه أوَّلا .. قمتُ أُسنده .. ما زال غير قادر على المشي،عظمةٌ كبيرة ٌ يبلغُ السبعين أو يزيد .. يتصبب عرقًا، مُصفرُّ اللون ، متسارعة أنفاسُه .. أنهينا إجراءات السحب .. استلم العجوز ـ وعيناي ترصدانه ـ مبلغ مائة ألف جنيه ، شكرني ، فَوَدَّعَني ، وهَمَمْتُ أن أصطحبه لباب المصرف وأُرْكِبَهُ أيَّ مواصلةٍ ، إلَّا أنَّ مُكَبِّرَ الصَّوْتِ نادى رقي فأجلستُه قريبًا، ثم انطلقتُ للشباك .. المُوظَّف يقول لي :ـ إنَّ الدفتر لا يوجد به سوى عشرة جنيهات .. أخذتني سكرةٌ من ذهول مع أني كنتُ أعلم تماما أنه لا يوجد به سوى عشرة جنيهات ، ومع ذلك حضرتُ .. لا لا .. أحضرتني قدماي .. لا لا .. أحضرني عقلي الباطن الذي ما زال يتذكر دفتر التوفير وقد كان به منذ فترة ليست بالبعيدة مبلغ كبير أُنْفقَ جميعُه على دراسة البنات والجامعة .. ما زالتْ صورةُ المبلغ بأصفاره المتشابكة تغازل ناظري ، ولأنني منذ الصباح أدور على قدمي كمُعَلَّقٍ في ساقية أفكِّر بلا عقل في طريقة أحصل بها على مال لأزوج ابنتي التي وعدتها بإحضار كل شيء حلمت به ، وراتبي بالكاد يكفي حتى منتصف الشهر ، والعمل رفضَ طلبَ السلفةِ ، ولم أجد من يقرضني قرضًا حسنًا، أو غيرَ حسنٍ، فكل من يملك قرشًا اليوم يعض عليه بنواجزه خوفا أن يطير، والزواج يحتاج لمالٍ كثيرٍ في هذا الزمن الشحيح ، وهذا العجوز يجلس محتضنًا حقيبةً بها مائة ألف جنيه ، وعفتي وعزة نفسي تمنعانني إخباره الأمرَ، لكن لماذا لا أُجَرِّبُ معه ؟ فلربما إن حدثتُه يعطِني هذا المال أو جزءا منه ، فأنا مسكين محتاج ، وهو أصلا سيتبرع به ، فأنا أَوْلَى .. أمممممم .. لكنه لا يعرفني ، وربما اتهمني بالكذب ، أو الاحتيال بعدما عرفتُ قصتَه ..... أفقتُ من نوبةِ الذهول الخاطفة هذه، وأحدهم يُرَبِّتُ على كتفي برفقٍ قائلًا :ـ يا أستاذ الْحَقْ والدَكْ .. والدُكَ تَعِبٌ جدًّا ومُغمى عليه .. انطلقتُ نحوَ العجوز فوجدتُ بجواره شخصًا يبدو عليه أنه طبيب، أو لديه خبرة بالإسعاف يحاول إفاقته ، ويُجْرِي له عملية تنفس صناعي، والعجوز شاخصٌ بصره فاغرٌ فاه غائبٌ عن الوعي تمامًا ، وفي النهاية سَبَّل عينيه والتفتَ إليَّ قائلًا :ـ البقاءُ لله أحسنَ الله عزاءَك في أبيكَ .. احتَضَنْتُ العجوزَ باكيًا ، بعدما قبضْتُ بكلتا يديَّ على المائةِ ألفِ جنيه ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ