الوحشُ (قصةٌ قصيرةٌ)
ولو ترى ذا القناع الأملس وهو يزحف متمسحًا بوجه صاحبنا النائم، فإذا بالأخير وقد قفز صارخًا من الرعب، وولى مدبرًا ولم يعقب، حتى بلغ حدود المعسكر المجاور، ولم يمنعه من مواصلة العدْوِ، إلا صوت الحرس يهدده بإطلاق النار، إنْ لم يثبت مكانه، ويرفع يديه عاليًا.
في إحدى ليالي ديسمبر المظلمة أوائل السبعينات، والسماء حالكة إلا من بضع نجوم متناثرة؛ أطلت خافتة على استحياء، فبدت كعيون كائنات فضائية بعيدة، تتلصص علينا. وكنا قد انتهينا لتونا من خدمتنا الأولى (برنجي)، في معسكرنا الضارب في أعماق الصحراء.
جافانا النوم لشدة الحر، وانتشار الحشرات، وضيق المكان. كنا تسعة رهط في ملجأ واحد، من أماكن شتى، وأعمار متباينة، صهرتنا الخدمة العسكرية في بوتقة واحدة، وامتدت بنا الصحبة فترة الحرب سنين عددًا، فمنا من يأس من العودة مرة أخرى للحياة المدنية، ومنا من ظل يداعبه الأمل، ويتعلق بأهداب المنى؛ تعلق الغريق بالقشة.
قررنا قتلَ الوقت بالثرثرة، وتولى أكبرنا سنًّا ورتبة إدارة دفة الحديث، تشعب بنا الكلام مراوحًا بين الجد والهزل، والطرائف والأحاجي، حتى تطرقنا إلى السحر، والكهانة، والعرافة، وحيل الدجالين والمشعوذين للعب بعقول العوام، واستلابهم أموالهم.
فجأة سأل أحدنا وعلى وجهه أمارات الجد: ما رأيكم بقصص المردة؛ ذوي أرجل الماعز، وجنيّ المصباح؛ الذي إذا فركته خرج ضاحكًا ضحكة مجلجلة؛ تكاد تقتلك من الرعب، فلبَّى لك ثلاث أمانيّ ولا يزيد، والأرانب التي تظهر للبعض ليلًا، فيحثوها في حجره، حتى إذا بلغ منزله لم يجدها شيئًا، وعروس البحر التي تتراءى للبحارة؛ فتغويهم باتباعها، والنداهة التي تقود من تناديه؛ مسحورًا لبه، فلا يفيق إلا وقد ألقته في اليم؟
تولى كبيرنا الرد، ففند كل هذه الترهات، وردها إلى الخيال الواسع، والموروث الشعبي من الخرافات، والخزعبلات، ساخرًا من عقولٍ؛ لا زالت تؤمن بها، وغيرنا قد وصل القمر، وغزا المريخ بالعلم والفكر.
تساءل آخر عن حقيقة مصاصي الدماء، والمستذئبين، والموتى الأحياء (الزومبي)، وكان الرد مباغتًا: إنها خيالات؛ لكنْ لها أصلٌ علمي!
فغر بعضنا فاه دهشة، وصفق آخرون تعجبًا، فاسترسل صاحبنا في حماس: عثر العلماء على نوع من الخفافيش؛ يمتص دماء ضحاياه، ويتغذى عليها. كما وجدوا نوعًا من العناكب؛ يقوم بحقن حشرة الصرصور، بسم بطيء المفعول، يقتله على مدى عدة أيام، يكون خلالها فاقدًا لكل مظاهر الحياة، إلا من حركة بطيئة غير معتادة، تدفعه غريزة حب البقاء للبحث عن الطعام، ثم تضع العنكبوت بيضها في جسد الضحية، فيفقس متزامنًا مع موت الصرصور، ليكون أول وجبة طازجة للصغار، وبالطبع لا يؤثر فيها السم.
طال بنا الحديث، وأوشك الليل أن ينصرم، فقمنا ننشد بعض الراحة؛ استعدادًا ليوم جديد شاق. تسلل أحدنا تحت جنح الظلام، فعمد إلى قناع الكيما فلبسه، ( وهو قناع واقٍ من الغازات، أملس، يغطى الوجه والرأس، وبه خرطوم للتنفس، متصل بأنبوبة أكسجين صغيرة تحمل على الظهر) ثم تمهل الخبيثُ، حتى إذا تيقن من نوم كبيرنا، وارتفاع غطيطه، مشى على أربع كحيوان خرافي بشع، وراح يتمسح بالمسكين، الذي هبَّ مذعورًا، لم يلتفت، وظل يجري لا يلوي على شيء، تلاحقه ضحكاتنا؛ التي دفعنا ثمنها في طابور الصباح.
أحمد عبد السلام_مصر