فراغٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
عرَّفَنِي لِبعضِ أصحابِهِ مِن الطلبةِ، وشدَّ على يدِ أحدِهم بِحرارةٍ، ثم همسَ في أُذنِي:
_سامي هذا، مِن خِيرة شبابِنا؛ سافرَ إلى الخارجِ ستَّ مراتٍ؛ ولم يزْنِ إلا مرةً واحدةً!
صعقتْنِي كلماتُهُ، وغمغمْتُ مُستنكِرًا:
_وهل الأصلُ، أنْ يزنِيَ كلَّمَا سافرَ؟
في أوائلِ التسعيناتِ مِن القرنِ الماضِي، سافرْتُ لِدولةٍ بتروليةٍ، لِأعملَ مدرسًا خاصًا. كان مُحدثِي طالبًا جامعيًا في السنةِ النهائيةِ، وإمامًا لِأحدِ المساجدِ، وواحدً من طلبةِ العلمِ الشرعِّي المُجتهِدينَ، فأذهلَني رأيُهُ، ولم أقتْنع بِتبريرِهِ فَعلةَ صاحبِهِ؛ بِأنَّهُ حينَ زلّتْ قدمُهُ، وفرطَ منه ما فرطَ، كان شابًا غِرًّا، عزبًا، غريبًا، غنيًّا، فارِغَا، ثمَّ إنَّهُ تابَ، وأنابَ.
بعدَ عامٍ من هذا الحديثِ، أتانِي مَهمُومًا مَغمومًا، على غير عادتِهِ. حاولْتُ التسريةَ عنْهُ، وحملَهُ على الفضفضةِ بِمكنونِ صدرِهِ، وبعدَ لأيٍّ، افترَّ ثغرُهُ عن ابتسامةٍ مُرَّةٍ، وزفرَ زفرةً حرَّى، وشرعَ يحدثُنِي بِصوتٍ تخنقُهُ العبراتُ، وكلماتُهُ تقطرُ أسىً:
_أنتَ تعرفُ سلمانَ أخِي طالبَ الهندسةِ، الذي يصغرُنِي بِعامينِ؟
أومأْتُ مُوافِقًا، ثم سرحْتُ في القصةِ الحزينةِ لِأخيهِ، الذي يختلفُ عنهُ تمامًا: فهو شابٌّ رياضِيٌّ وسيمٌ، أنيقٌ، شديدُ الاهتمامِ بِمظهرِهِ؛ وسيارتِهِ؛ ودراستِهِ، غيرَ أنَّهُ مُستهتِرٌ، يهوَى مُعاكسةَ البناتِ بِالهاتفِ، ويحترفُ مطاردتَهنَّ في الأسواق، ومواعدتَهنَّ في (المُولاتِ) التجاريةِ المزدحمةِ، ممَّا يجرُّ عليْهِ الكثيرَ من المتاعبِ، وقد نشِبَتْ بينَهُ وبينَ بعضِ الشبابِ والأهالِي مشاجراتٌ عديدةٌ، باءَ على أثرِ إحدَاها؛ بِطعنةِ مديةٍ نافذةٍ نجلاءَ، قطعَتْ وترَ الفخِذِ اليُمنَى، فأصبحَ لا يتحكمُ في كفِّ قدمِهِ. وكان ارتخاءُ قدمِهِ هذا، يسببُ له حرجًا بالغًا، وألمًا نفسيًّا هائِلًا، عندما يُضطرُّ لِسحبِها عندَ المشْيِّ، أو عندَما يحجِلُ على قدمِهِ الأخرَى، خاصةً إذا تصادفَ وجودُ نساءٍ في المكانِ.
استأنفَ مُحدِّثي:
_ذهبْتُ معَهُ إلى طبيبٍ متخصصٍ شهيرٍ، أتَى زائِرًا لِلعاصمةِ أيامًا معدوداتٍ، وبعدَ الفحصِ وعملِ الأشعةِ والتحاليلِ المطلوبةِ، أعطانَا بطاقةَ عملِهِ، وضربَ لنا موعِدًا لمقابلتِهِ، لِلعلاجِ بِالخارجِ، واتفقْنا على الأتعابِ، فسافرْنا في الموعدِ، وعُدْنا بِالأمسِ.
_الحمدُ للهِ على سلامتِكم، وما هي النتيجةُ؟ هل اكتئابُك هذا لِفشلِ العمليةِ؟
_لا؛ أبدًا، لقدْ نجحَتِ العمليةُ بحمدِ اللهِ، وتمَّ وصلُ الوترِ المقطوعِ، لكنَّهُ لن يستطيعَ المشيَ عليْها؛ قبلَ ستةِ أشهرٍ، معَ استمرارِ العلاجِ الطبيعيِّ.
_فعلامُ الحزنُ إذنْ؟
_قصدتُ صديقًا لِي في البلدِ الأجنبيِّ، فاصطحبَنا إلى عيادةِ الطبيبِ، ولم يستغرقِ الفحصُ السريريُّ أكثرَ مِن دقائقَ، قررَ بعدَها الطبيبُ إجراءَ العمليةِ، وحددَّ أتعابَهُ بِزيادةٍ عمَّا اتفقْنا عليْهِ سابقًا، فقبِلْنا مُرغَمينَ، قدَّمْنا إليهِ شيكاتٍ سياحيةً؛ فرفضَها، وطلبَ أتعابَهُ نقدًا. استأجرْنا شقةً سكنيةً بناءً على نصيحةِ صديقِنا، لِأنَّها أرخصُ من الفنادقِ، ولِاحتياجِنا إليْها فترةَ النقاهةِ. أجريْتُ عِدةَ اتصالاتٍ بِبلدِي، لِتحويلِ المبلغِ المتبقِي، وذهبتُ لِلبنكِ صباحًا لِصرفِ النقودِ، وعدتُ لِأجدَ حيةً رقطاءَ تشارِكُ أخي فِراشَهُ.
_مَاذا؟
_نعمْ.. تخيلْ! المريضُ الذي ينتظرُ إجراءَ الجراحةِ بعدَ ساعاتٍ؛ بدلًا مِن أنْ يمضيَها في التَّضرعِ والابتهالِ، كان يُغضِبُ اللهَ؛ ويهِمُّ بِارتكابِ الفاحشةِ؛ لولَا أنْ تداركتُهُ في الوقتِ المناسبِ.
_كيفَ؟
_صحْتُ بِهما فلم تتحركْ، واستمسكَ هو بِها، ولِأول مرةٍ في حياتِهِ أراهُ، يتصدَّى لِي، ويعصِي لي أمرًا!
_لِهذِه الدرجةِ؟
_ نعم كأنّهُ مسحورٌ! فطفقْتُ أخوفُهُ عِقابَ اللهِ، وأناشدُهُ الرحِمَ، حتَّى هدأَ واستكانَ.
_وهِيَ ماذا فعلَتْ؟
_لِدهشتِي الشديدةِ، ظلَّتْ جالسةً بِجوارِهِ في هدوءٍ، واضعةً ساقَها العاريةَ على الأُخرَى، وبِكلِّ برودٍ، شرعَتْ في إشعالِ لفافةِ تبغٍ، كأنَّها تشاهدُ فيلمًا سينيمائيًّا!
اشتدَّ حنقِي، فجررتُها من يدِها، وطردتُها خارِجًا، وألقيْتُ إليها ثيابَها، وأوصدتُ البابَ خلفَها، ثمَّ رحتُ أعنفُهُ بِشدةٍ، وهو واجمٌ، حتَّى أشفقْتُ عليْهِ مِن الانهيارِ، فضممْتُهُ إلى صدرِي، وبكيْنا سوِيًّا.
قلتُ بِلا تفكيرٍ:
_ألم يكنْ أخُوكَ حينئِذٍ، شابًّا غِرَّا، عزبًا، غريبًا، غنيًا، فارِغَا؟
حدجَنِي بِنظرةٍ ناريةٍ، ولم ينبسْ بِبنتِ شفةٍ، ثمَّ انصرفَ ساخطًا، وقاطعَني أيامًا!
أحمد عبد السلام_مصر