قصة ( مشوار) للكاتبة: وعد طالب شكوة
زهَتْ بصغارِها تمتدّ قاماتهم رغم الوجبة المحرومة من طبق اللحم... من ثمرة الفاكهة، ومن قطعة الحلوى.
افتخرت بطلاقة ألسنتهم فهم يجادلون، ويناقشون. تضحك للشتائم تنثال من بين أسنانهم طليقة، فقد التقطوها مذ وعت آذانهم المفردات ،تفنّنوا في استخدامها بعد أن غادروا مقاعد الدراسة، و تراكضوا في أزقّة ضيقة يكثر فيها التّراب و الأولاد.
تتباهى بقدرتهم على تحصيل الرّزق، فالكبير ترقى من أجير خضري إلى صاحب عربة خضرة، جوّال في الأحياء سلاحه قدماه وصوته الرنّان. والثّاني تنقّل من حافلة إلى حافلة، وتربّى على أيدي السّائقين ليترفّع إلى مرتبة سائق بالأجرة. أمّا الثّالث المدلّل ،فلم يكن يحبّ أن يعمل تحت سلطان معلم يوجّهه: اكنس الأرض، قدّم الشّاي للضيوف، فانتهى به المطاف حمّالاً يبيع ظهره لمن يريد أن ينقل أثاث بيته، أدوات البناء....
دارت على البيوت تفتش، تختار، تتكرم على والد فتاة فقيرة بأبنائها الواحد تلو الآخر، لتحشر كلاً منهم مع عائلته في غرفة وأثاث لا يستكين على الجدران حتى يُباع من جديد، فالعريس مديون، وتكلفة الزواج من تبرعات أهل الخير. ويكثر الأولاد. يعلو صراخها وهي تنبّه على الأمهات. تنصّب نفسها قاضياً للفصل بين خصومات الصّغار.
وقبل أن تجلس لترتاح من عناء مشوارها الطويل وصلت بيتها الفقير شظايا حرب الجنون ، وتناثر شبابها لكلّ منهم بزّة عسكرية، وراية تختلف عن الآخر، صارت شجاراتهم بمفردات لم تفهمها، ولم يستطع زوجها المقعد أن يفسرها.
تسلّل اللحم والفاكهة إلى البيت لكنها لم تجد لطعمه مذاقاً في فمها، وامتلأت المدفأة ( بالمازوت) ووضع في بيتها أسطوانات الغاز، لكنّ البرد ظلّ ينخر عظامها. لبس الأولاد والنساء ثياباً جديدة لكن البهجة لم تداعب شغاف قلبها.
القلق مؤلم و لا أحد يأبه بمخاوفها، لكنّ رعبها تجلّى دموعاً صدقتها البنات عندما عاد إليهم ابنها البكر جثماناً في كيس، لم يسمح لهم بفتحه لتوديع والد الأطفال، جلست قرب القبر أياماً وأياما تبكي، تندب، وتجدّد نبع دموعها حين وصلتها صور رحيل الثّاني من غير أن تلمس جسده، ويوم وصلها خبر الثّالث أصرّت على النّوم في المقبرة لكنّ الجارات منعنها.
الذهول المرسوم على وجهها يرعب الأرامل الصغيرات و الأحفاد. تحلق الجميع حولها يحكون الخراب: النقود نفذت، الغاز انتهى، الثلاجة خلت من الطعام، الأولاد جياع. ماذا نفعل؟
خرجت إلى المقبرة، رفعت كومتي تراب على جانبي قبر ابنها البكر:هاذان أخواك، وعليك أن تهتم بهما. وقفلت راجعة إلى بيتها، وليس بيدها إلا أن ترفد مطر السماء بالدموع، و شوارع الوطن المنكوب بالبؤساء من اليتامى الأجراء.