قصة قصيرة ___________ شَـوْكـةٌ إسمُهـا حـَيـاة..
تعالت صيحات المرضى حال رؤيتهم للممرّض سالم يحمل على كتفه شراشف وملاءات ويدفع أمامه عمودا معدنيا تتأرجح في أعلاه قارورة المصل،طالبهم بالصمت والصبر وراح يرتب السرير المجاور للأستاذ حميد الذي اختلس النظرات إلى الممرض سالم ذو الكرش الضخم والرأس الأصلع..
يبدو أن مريضا آخر في طريقه إلى هذه القاعة ومؤكد أن له أهلا يحبونه فذلك جليّ من همة ونشاط الممرض سالم الذي يظهر فقط حين يكون واثقا أن زخاتٍ لا بأس بها ستبلل باطن يده..
أطلّ الأستاذ حميد من النافذة جوار سريره وبدا المشفى هادئا إلى حد ما،بعدما أتمّ الأطباء جولاتهم على المرضى وانصرفوا لتأدية باقي مهامّهم،راقب عقرب ساعته الفضية وهو يزحف نحو الرابعة عصرا،قام يرتب سريره ببطء،وينتعل خفيه ويمسك عكازه ويعمد إلى الهروب،ليس فقط خارج قاعة المرضى بل خارج الجناح كله،ليقصد حديقة المشفى الجامعي ككل يوم ،وينأى بنفسه بعيدا عن نظرات الشفقة التي تطلّ من أعين الزوار،ثمّ تتبعها وشوشات وهمسات، وقد يتشجع أحدهم للتعبير عن أسفه وهو يلوي شفتيه امتعاضا وتذمرا من تصاريف الدهر..
في ذلك اليوم كان لديه شعور خفي يلح عليه بترك سريره في وقت أبكر من السابق،توكأ على عكازه وهمّ بمغادرة الغرفة الفسيحة الأرجاء التي تضم ثمانية أسرّة يستلقي فيها زملاؤه المرضى..
سمع نداء أحدهم فرفع يده قائلا باقتضاب:
_لحظات فقط وأعود !
مكوثه هناك لفترة طويلة جعله أشبه بممرض لجلّ المرضى،لم يتأخر يوما عن مدّ يد العون إليهم،فهم يعانون وهو يعي جيدا معنى الألم،هم يأتون ويرحلون وهو باقٍ إلى أجل غير مسمى..
فوجئ بباب الجناح لا يزال مقفلا،نادى الحارس بصوت مبحوح،تطلع إلى اللافتة أعلى الجدار
"جناح 35 للأمراض الباطنية "..
ابتسم بسخرية وفكّر..لو كان الأمر في يده لسمّاه "جناح الموت" ،هكذا أفضل..أي أمراض هنا..؟
هناك فقط ملاك الموت يرفرف بجناحيه ويخطف الأرواح في كل ليلة ومن يفلت من قبضته يكون مصيره المزيد من الآلام والأنين..
تابع تأملاته وهو يعبر الرواق متجها إلى ركنه المفضل،،هناك في تلك الحديقة،قرب الشجرة النحيلة،العارية أغصانها،المعوجّ وسطها، مثله تماما ..
شعور مجنون ذاك الذي يعربد أحيانا داخله،للحظات يشعر أنه يريد أن يقهقه عاليا وأن يصرخ بأعلى صوته،أن يوقف يوما ما تلك الأفواج المتدفقة كل مساء ويعتلي خشبة ما ليقول جملة واحدة :
"أيها الأصحاء..كم أنتم غافلون"
وبعدها يعود إلى صمته وتقوقعه الدائمين ..
تهالك على الكرسي الإسمنتي البارد، وضع عكازه جانبا،مدّد رجليه الطويلتين أمامه،واستسلم لسيل تأملاته الجارف،وعيناه متسمرتان على الأرض تتابع انجراف وريقات الشجر الصفراء،كان رجلا أربعينيا،ذو قامة طويلة،وجهه النحيف تكسوه شعيرات خشنة،عيناه واسعتان تميلان إلى الجحوظ،شعره أملس ينحني على جبهته بشكل غير متناسق..
حانت منه التفاتة إلى بوابة المشفى الجامعي الكبير وراقب بضيق تدافع أفواج الزوار وهم يحملون أكياسا ويتفرقون في شتى الاتجاهات،نحو أقسام الأمراض المختلفة ،كان له نصيب من تلك الأفواج،ومع مرور الأيام بدأ يضمحل ويندثر حتى اختفى زواره بشكل تام..
لكنه يلتمس لهم العذر،فالناس بطبعهمّ يملّون،حتى أعتى مشاعر الود والمحبة تتداعى أمام شعورهم بالغثيان بسبب الكحول والمطهّرات والروائح الكريهة المنبعثة من أمعائه ومن أمعاء المرضى الآخرين،..
توقفت بغتة بجانبه سيدة في أواسط الأربعين وتأملته مليا، عبير عطرها الباريسي عمّ المكان،ويبدو عليها سعة العيش والرفاهية،وجهها لا يخلو من جمال وإشراق،اقتربت منه وجلست بصمت إلى جواره..
بهت للحظة لكنه سرعان ما استرد رباطة جأشه وابتعد عنها قليلا،وضعت يدها فوق يده وابتسمت:
_تبدو بخير أيها الفتى ..!
هكذا تعودت أن تناديه منذ زمن،جذب يده بحدة وأشاح بوجهه بعيدا..
عبست قليلا ثم قالت:
_لدي كلام كثير،لكن لا مجال لقوله هنا،إنما فقط أريدك أن تعود معي..
ابتسم حميد بمرارة وقال :
_لو أنكِ جئتِ قبل شهرين فقط لأمسكتُ بتلابيب ثوبك ولتوسلتُ إليك كي أغادر هذا المكان..أما الآن ..ما عاد شيء يهمني ..
_يبدو أن اليأس تسلل إليك واستوطنك حتى تغيرتَ بهذا الشكل المخيف..!
_معك حق أنّ كائنا ما اجتاحني وأضعفني لكنه ليس اليأس..
رفع رأسه إلى السماء يراقب سرب النوارس الذي يحلق عاليا ،وتابع بسخرية:
_الرحيل يا حياة،الموت عنوان الحياة الرئيسي،وأنتِ هناك ..في تلك البلاد الباردة تطاردين الأحلام الزائفة وتخططين وتحسبين.. ألم تضعي ولو على هامش الورقة احتمال الرحيل مبكرا..؟
اقتربت منه حياة ثانية،وابتعد عنها بغضب صائحا:
_لا تقتربي مني مرة أخرى،حتى لا أرى اشمئزازك من رائحة هذا الجراب العفن !
ورفع قميصه بحركة فجائية وبدت أمعاؤه مغطاة بجراب شفاف يظهر شكلها المنفر والدماء الوردية تتخللها..
أشاحت حياة ببصرها وأطرقت برأسها وقالت:
_تحدثت إلى طبيبك و..
قاطعها بصوت متحشرج:
_لا تحدثيني عن الأمل،بل حدثيني عن الألم،إسأليني كيف هوت صحتي إلى هذا المنحدر السحيق..
أمسك عكازه وبدأ يرسم به خطوطا فوق التراب وأوراق الأشجار وهتف بحدة :
_الحياة مجرد خطوط يا حياة..وهذه خطوط حياتي أنا..
الخط الأول..حلمُ حياتي يتحقق بعد أشواط التعليم العالي والبحث عن وظيفة،وأظفر بحياة التي لم أعشق غيرها..
الخط الثاني..السعي بكلّ جهدي لزيادة دخلي لنتمكن من تكوين أسرة والعيش بحبّ ووئام..
الخط الثالث..سكت للحظة ثم أكمل بحسرة :
_هذا الخط بالذات لم يكن لي فيه أي دخل،هذا خطّكِ أنت،،قرار الهجرة إلى كندا، فدبلومك مطلوب هناك ومما لاشكّ فيه ستبحثين عن فرصة عمل للأستاذ المسكين،،وحينئذ فقط يمكننا تكوين أسرة، ويمكننا أن نندسّ بين الأغنياء..
رفعت حياة حاجبيها بضيق قائلة :
_لم يكن الطموح يوما عيبا !
صفق حميدا بحرارة وربت على كتفها:
_معك حق،،لكني لا زلت لم أكمل رسم خطوطي بعد..
أمسك بالعكاز وتابع :
_وهذا هو الخط الرابع،،تسافر حياة إلى كندا ويعود أخطبوط اليُتم والوحدة ليعتصر الأستاذ حميد بكلّ أذرعه،وتمر السنوات تباعا بين الوعود والآمال والعطلات الصيفية التي كنتِ تمتصين بها غضبه ..وتختفين فجأة،وتتقطع جميع السبل للاتصال بك..
احتجّت حياة وردّت بخفوت :
_كنت أؤسس مشروعا ليضمن..
قاطعها حميد بتهكم :
_ألا تملّين أبدا..؟عن أي ضماناتٍ تتحدثين..؟
رفع عكازه في الهواء وأشار إلى جناح الأمراض الباطنية قائلا:
_أسبوع واحد يقضيه المرء هناك في ذلك الجناح وسط أنين المرضى وكلماتهم الأخيرة كفيل بأن يعي جيدا أنه لا ضمانات أبدا في هذه الحياة..
اعتدل في جلوسه ونظر أمامه واسترسل وكأنه يحدث نفسه:
_وتختفين يا حياة .. بحُلْوِكِ ومرّك ويغزو المرض جسد حميد،فيترك الآمال ويعانق الآلام،وبعد سلسلة من الفحوصات والأشعة يؤكد الأطباء أن شوكة ما أصابت أمعاءه بثقب صغير فكان لزاما عليهم بتر ذلك الجزء المتعفن وبعد ذلك يستمر مسلسل البتر ليستقر جراب كريه وسط بطنه وكلما خاطوا الجرح يتفتق ثانية وصار الأستاذ حميد مجرد فأر تجارب لحالة مستعصية..
اقترب فجأة منهما الممرض (سالم) قائلا بحماس:
_سيدتي،لقد جهّزوا ملف المريض..!
أجابته بوجوم :
_لحظة فقط !
أومأ برأسه موافقا واختفى بسرعة البرق..
مطّ حميد شفتيه بامتعاض وأكمل حديثه بازدراء :
_لا شأن لك بملفي،لأنه لا أحد في هذه الحياة يمكنه فعل شيء لأجلي يا حياة،. حتى تلك البلاد الباردة بإمكاناتها الضخمة لا يمكنها أن تمنحني الأمل أو الأمد، فلم الركض وراء وهم الدفء بين الكثبان الثلجية ؟
توكأ على عصاه ومشى خطوتين ثم رسم خطا قصيرا فوق الأرض وصاح :
_وهذا هو الخط الأخير..فبالرغم من أنّ مرضي ليس خبيثا بل مجرد شوكة، لكنها فتكت بحياتي،حينئذ فقط أدركتُ أنّ الشوكة الحقيقية وخزتني يوم عرفتك يا حياة،لأنّك لم تهبيني سوى الوهم والألم،بل وبخلت عليّ بمنحي برعما صغيرا يشدّ أزري ولو بابتسامة حانية منه،للجميع سند في هذه الحياة إلا أنا..استندت عليكِ فهويتُ إلى قاع الوحدة والفناء ..
انسابت دموع الغضب من عيني حياة وقالت بصوت مخنوق :
_لا يحق لك لومي بسبب مرضك فأنا لم أذنب لأنني طمحتُ إلى عيش رغيد وأجلت مسألة الانجاب حتى..
رفع كفه بهدوء ووضع سبابته فوق شفتيه مطالبا إياها بالصمت وانحنى قليلا وقال بصوت متعب :
_ قبل أن ألومك لمتُ نفسي يا حياة،قضيت سنوات عديدة حبيس اللوم والندم حتى اهترأتُ واهترأتْ صحتي،فلا داعي للمزيد من الكلام ، لأنني وصلتُ حقا إلى خط النهاية..
سار بخطى وئيدة زاد من ثقلها جرحه الذي نكأته حياة،اتجه صوب الجناح بعدما عمّ الهدوء والسكون المشفى لانتهاء وقت الزيارة ،واستلقى في سريره يراقبها من النافذة بحزن دفين..
غطّت حياة وجهها براحتيها ثم دلّكت جبينها للحظات بتوتر،رنّ هاتفها في حقيبتها السوداء اللامعة فحملته وأجابت بفتور :
_نعم ؟
ردت مديرة مكتبها الأجنبية بأدب وهدوء :
_سيدتي،،لقد اتصلوا من المشفى الخاص..
قاطعتها حياة بلهجة آمرة :
_نعم فهمت،أطلبي منهم إلغاء الحجز لأن الأستاذ حميد توفي اليوم..!
تأوهت المديرة وتابعت :
_تعازيّ الحارة سيدتي ولكن هناك أمر آخر..فحوصاتك السنوية الأخيرة ..أظهرت وجود ورم في الجانب الأيسر من الدماغ..و..
شحب وجه حياة بشدة وتركت الهاتف ينزلق من يدها ويقع ليستقر أسفل قدميها..
في تلك اللحظة مرّ سرب النوارس ثانية متجها نحو الشاطئ خلف المشفى،وأطلق صيحات أيقظت حياة من صدمتها،فرفعت بصرها إلى السماء وخيّل إليها أن النوارس عادت لتذكّرها بأوان الرحيل..
حنين فيروز
11/02/2016
صورة Hanin Fairouz.
أعجبني