قصة قصيرة -- بعنوان -- رحلة مع الذات – بقلم جمال ابراهيم
تتسارع خطواته ليلحق بالقطار --- اختار مقعده بعناية بالغة حتى يتفادى إلقاء الصبية الحجارة على القطار أثناء السير --- هذا الهاجس مستوطن فى نفسه من لحظة ما رأى رجل غارق وجهه بالدماء لقد أصابه حجر --- استرخى عبد العال على كرسيه ناظرا" أمامه -- كانت هناك فى مقدمة العربة صبية صغيرة تتعارك وتلهوا -- فأخذه الحنين إلى الماضى عندما كان فى مثل سنهم -- هناك فى الشرقية مسقط رأسه شهد أهم فترات عمره فقد كان منذ نعومة أظافره يتصف بالشقاوة لقد أخذه شريط الذكريات -- عندما كان يتسلق النخل ليسطوا على البلح -- كان أبوه ينهره دائما" -- إنه يتذكر والده وهو يؤنبه على فعل هذا الأمر -- ولكنه لم يرتدع ---ولازال شريط الذكريات يمر بخاطره عندما نزل حقل إحدى جيرانه ليأخذ كيزان الذرة وكيف كان يعبث بعيدان الذره ويميلها أرضا" نكاية فى صاحب الحقل -- إنه كان يتشوق إلى معرفة حال صاحب الحقل عندما يرى ما حدث فى حقله --- لقد كانت تغمره السعادة لذلك -- آفاق عبدالعال لنفسه تاركا" شريط الذكريات وتبسم مسترخيا" -- لقد وصل القطار محطته الأولى -- وبدأ الركاب فى الصعود -- وجلس على الكرسى المقابل له صبى هيئته تدل على صنعته -- إنه صاحب حرفة ولكن الشقاء باديا" على ملامحه -- نظر إليه عبد العال -- لقد ذكره هذا الصبى بنفسه عندما كان فى مرحلة الصبا -- لقد كان والده ضعيف الحال -- لايقدر على تلبية مطالب الحياه الأساسية --- مما دفعه للاعتماد على نفسه فى مثل هذا السن المتقدم -- فعمل بجانب الدراسة -- ولازال يرقب الصبى فحال الصبى يعانق حاله ومعانات الصبى تعانق معاناته وآلامهما تسقى من معين واحد -- هو الاحتياج إلى متطلبات الحياه -- إنها المعاناه والشقاء والتعب من أجل لقمة العيش -- إنه ليس بالساخط ولا المعترض لأنه يعلم أن الرجال هم الذين يبنون انفسهم -- ويعلم أن عزيمته فى هذا الأمر من فولاذ -- إنه على يقين إنه سيحقق كل الذى يتمناه بالاعتماد على الله وعلى سواعده -- لا زال عبد العال يستشف واقع حاله إنه فى طاحونه لا يريح جسده سوى سويعات قليلة -- وكيف الفرار من العناء وهو يعمل عملين صباحا مدرس وبعد الظهر فى مطعم --- لقد تكالبت عليه الحياة بكل متطلباتها -- إنه يريد أن يحفر فى الصخر حتى يستطيع أن يحيا حياه كريمة تليق به -- ها هو أثر صوتها يأتى من بعيد -- من إحدى العربات المتقدمه من القطار -- إنها بائعة بالقطار تعود عبدالعال أن يشترى منها -- إنها أمراة قاربت السبعين من العمر -- خمرية اللون مستديرة الوجه -- وجهها صغير تتكأ على عصا -- رسم الزمان على مقاطع وجهها تجاعيد تعبر عن سنين عمرها -- إنها تنادى وتقول : لب وملبن -- استقبل عبد العال صوتها بانشراح وكأنه ينتظرها --- لازال صوتها قادم من بعيد كلما وضح الصوت اقتربت --- هاهى تقترب رويدا" رويدا" -- تعود عبد العال أن يداعبها ببعض الكلمات حتى يزيل غبار عناء الزمن من كاهلها -- وكأنه يريد أن يلطف لها شقائها -- لقد اقتربت كثيرا" -- لقد استقبل ظهورها فى العربة بوجه بشوش -- إنها تتجه نحوه وهى تنادى قائلة : لب وملبن -- نظر إليها عبد العال قائلا": تحبى أجبلك علبة ملبن ولا عريس --- فتبسمت ضاحكة ثم أردفت قائلة : هو أنا عندى سنان للملبن -- فتعالت ضحكات عبد العال ومن حوله --- وبعد جولة من المداعبات اشترى عبد العال وتركها تذهب لحال سبيلها --- ثم أردف ناظرا" إلى الصبى الذى يجلس أمامه وأعطاه بعض ما اشتراه -- فتبسم الصبى وتمنع خجلا" -- ولكن عبد العال أصر فاخذ الصبى على استحياء -- هناك فى مقدمة العربة يجلس عم حسن إنه من أكبر غواة صيد الأسماك معه أدواته -- لمح عبد العال جالسا" فرفع يده مسلما" فرد عبد العال السلام ثم أردف قائلا": بصوت الوجدان من يريد أن يتعلم الصبر -- يأخذ سنارة ويجلس على شاطئ النيل بجوار عم حسن -- كان عبد العال يدرك فائدة الصبر وإنه مفتاح كل نجاح وكان يعلم أن العجلة دائما" يصاحبها الفشل -- لقد كان دائما" مستاء من الشباب الصغير المتعجل الذى يريد أن يحقق كل شئ فى زمن قياسى لا يتناسب مع إمكانياته -- كان دائما ينصحهم ---لم يتبقى على محطه الوصول إلا القليل -- توقف القطار فى المحطة التى تسبق محطة الوصول -- لقد استقل العربة بائع السميط لقد تعود عبد العال على رؤيته كل يوم -- فتبسم كأنه يحمد الله إنه رأه قبل أن ينزل من القطار--- القطار يدخل محطه الوصول --بدأ عبد العال الاستعداد للنزول -- الفلاحات يفترشن مشنات الخضار داخل العربه -- إنها تعوقه إنه يريد أن يذهب إلى العربة الأخيرة لينزل منها حتى يكون قريب من الجسر -- بدأ عبد العال يتخطى تلك المشنات -- عابرا" الفواصل التى تربط بين العربات حتى يصل إلى العربة الأخيرة -- لقد اجتازها جميعا" -- إنه يقف على الباب ينتظر وقوف القطار -- وقف القطار ونزل عبد العال ---- وبدأ القطار فى التحرك ليستكمل سيره -- التفت عبد العال إليه قائلا" : سلام صديقى -- وبدأ فى السير بخطى ثابتة يعبر الجسر للإتجاه إلى العمل -- تمت –
بقلمى – جمال ابراهيم
صورة الاديب جمال ابراهيم.