طلب مني ذاك الصديق أن أفسر له معنى تلك الحكمة التي يعرفها الحكام الظلمة لكنهم يتجاهلونها : قلت له : ما هي تلك الحكمة يا صديقي وأتمنى ان تكون حكمة حقيقية وليست من حشو الكلام ؟ قال : ( لو دامت لغيرك لما وصلت اليك ) ماذا يقصد قائلها ومن هو قائلها ولمن قالها ذاك القائل وهل هي حكمة حقيقية كما تقول أم أنها من حشو الكلام ؟ قلت له : أكثر أسئلتك لا لزوم لها ولا فائدة تُرجى من ورائها ! لكن السؤال الذي قد يُستفاد منه أنها حكمة رائعة حقيقية تصب في مصبّ العقل السليم بل لا ينتجها سوى عقل سليم ! يا صديقي لا يهمني من هو قائلها ولا لمن قيلت له الذي يهمني أنها كلمات تنبض بالفكر السليم والعقل الناضج القويم ! تلك حكمة لا أرى أنها بحاجة الى تفسير لأنها تفسّر نفسَها من نفسِها ولا أدري أيحتاج مثلك أن أفسرها له وهي من الوضوح بحيث أستغرب منك هكذا سؤال ! قال : ظننتك أذكى من ذلك يا من يقول عنك الناس أنك لبيب وهذا أمر غريب ان لم يك عجيب ! يا صديقي أحب أن يفهم الآخرون منك ما يستفيدون منه ! تبسمت ضاحكاً من قوله وأثنيت عليه لشجاعته لا سيما قال مقولته تلك وقد رآني أحمل بيدي عصاً ثقيلة كنت أتكئ عليها وأنا أستمع لما يقول ولم يخش غضبي لأنه يعرف مسبقاً أنني أحب وأحترم الرأي المقابل بكل سعة صدر لا لزوم معه للعصا ولا للسلاح ! قلت له تالله لقد صدقت في قولك وأنا الذي يحتاج الى التدبر أكثر من غيره ! اسمع يا صديقي : لو دامت لغيرك لما وصلت اليك ! حين يصل بعض القادة الى سدّة الحكم يصيبهم العُجْب أيما إصابة وتنتابهم من شدة هولها علامات الكآبة ويظنون أنهم الآن مستوطنون مُخلَّدون فيتغير طعمهم ولونهم ورائحتهم ! فينسون القريب عوضاً عن الغريب ! وترى وجوههم مغبرة مكفهرة يقاتلون الذباب الأزرق دون سبب وكل شيء عندهم وراءه غضب ! أما أكثر عوامل السعادة في نفوسهم فقد نضب ! وترى الناس يتأففون من هكذا حكام وتبدو على ألسنتهم الملامة ! يظن أولئك أنهم أول القادة في الدنيا وتشرف الوجود بمقدمِهم وأنهم لن يبرحوا على كرسيهم عاكفين حتى الأبد فتراهم يبطشون كل من انتقد حكمهم ويتهمونه بالخيانة وأنه قد هز الأمن القومي وانه وانه وانه من كل التهم التي أقلّها يحل عليه القتل والاختفاء القسري والرمي في غياهب السجون لأنه تجرّأ على الحضرة الدائمة وجلب عليها الدواهي الغائمة ! فتأتي الحكمة في مكانها الصحيح حين يجد من يقول له ( لو دامت لغيرك لما وصلت اليك ) لقد جلس مكانك مالا يُحصى وزالوا وسوف تزول ! والعدل أساس الحكم فإما اعتدلت وإما اعتزلت ! أسأل الله الهدى لكل قادتنا لعلهم يعرفون ويفقهون ويعدلون ! الأديب وصفي المشهراوي ...