جانب من العلاقة بين اللغة والفلسفة:
----------------------------------------------
[.... وظهرت الفرق الإسلامية التي كان بعضها يهتم بنواحي الحكم والسلطة أكثر من اهتمامه بالنواحي العلمية والعقلية، بينما البعض الآخر كان يولي الفكر العلمي والديني والفلسفي المكانة الأولى، ويتفق المؤرخون والباحثون على أن المعتزلة كانوا أبرز الفرق الإسلامية التي اهتمت بعلم الكلام وبالفلسفة وبما يتصل بالدين وعلاقة الإنسان بالله وبما وراء الطبيعة، كما اهتموا بالأبحاث الميتافيزيقية وبحثوا في (الذات والصفات) وأعمال الإنسان وما يترتب عليه واشتهروا بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، كما عرفوا أيضاً باسم أهل العدل والتوحيد. ونحن لا نريد تفصيل مذهبهم لأن هذا ليس موضوعنا، وإنما نكتفي بالإشارة إلى بعض خصائصهم الفكرية تمهيداً لما سنبيّنه لاحقاً عن علاقة ذلك باللغة العربية؛ فقد خطر في البال سؤال طريف حول إعراب (البسملة)، وتوقفنا عند كلمة الرحمن ثم الرحيم، وقد كان الإجماع عند من نشاهدهم من المثقفين أنها (نعتٌ أو صفة) للفظ الجلالة، وكذلك كلمة الرحيم صفة ثانية وكلاهما مجرورة لأن ما قبلهما مجرور وهذه معلومات بسيطة لا غبار عليها.
ولكن هل انتهى الموضوع إلى هنا؟ لا أعتقد ذلك، بل هناك رأي جديد بأنه يوجد إعرابٌ آخر لكلمة (الرحمن)، فما هو ذلك الإعراب ؟ ومن هو الذي يقول به؟
الإعراب هو أن كلمة الرحمن (بدل مطابق)، لأنها تطابق ما قبلها تماماً، (وهي لفظ الجلالة: الله)، ولكن من هو الذي يقول بذلك؟
إن القائلين بذلك هم (أهل العدل والتوحيد: المعتزلة)، والسؤال المنطقي المباشر هو: لماذا هذا الإعراب، أو ما هي مبرراته؟
وجواباً على ذلك نقول إن هذا هو الذي يتماشى مع مذهبهم وهو (توحيد الذات والصفات) بمعنى أن الذات هي عين الصفات، ولذلك إن قلت الله أو قلت الرحمن فهو الإله الواحد وهذه أسماؤه، وكلها تدل عليه. وبناء على ذلك يجوز أن يقع بعضها موقع البعض الآخر، وربما أوردوا من القرآن الكريم ما يؤيد وجهة نظرهم هذه، كقوله تعالى: (قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى) [الإسراء:110].
والطريف أني وجدت في بعض المراجع إعراباً يشبه هذا في قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) حيث أعرب كلمة (ربِّ) بدلاً مطابقاً للفظ الجلالة وأردف يقول: (ويجوز أن تكون صفة مجرورة)، ولكنه قدّم البدل على الصفة علماً بأنه أعرب كلمة (الرحمن) صفة فقط. ونستطيع أن نعلل ذلك بسهولة؛ فإن من يعرب (الرحمن) صفة، له حجته بأن أسماء الله الحسنى هي في الحقيقة أسماء صفات، بينما (الكلمتان: الله، والرّب) أسمان لذاته أو هما من أسماء العَلم الأصيلة في ذاتها، وليسا من أسماء الصفات، وإن كان شرحها يقتضي أن يضيف إليها الشارح صفات يراها لائقة وواجبة؛ فالله تعني في الأساس الواحد الذي لا يستحق التأليه (أي العبادة) إلا هو، كما أن الرب تعني في الأساس خالق المخلوقات ومربيها بنعمته. وليس هناك رب آخر (أي خالق قادر) سواه، وهما عنوان توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، كما نعلم.
ولا نريد الاستطراد كثيراً في هذا السياق، ولكن من ناحية أخرى هناك ثلاثة أشياء متنوعة تخص الجانب الفلسفي في اللغة تتبادر إلى الذهن لا بد من الإشارة إليها، وهي كما يلي:
1 ـ يقول الله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) وفي آية أخرى يقول تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). والآيتان لهما مدلول واحد هو العيش باعتدال فلا الإسراف محمود ولا البخل محمود. ففي الآية الأولى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك كناية عن البخل وكأن اليد مربوطة فلا يستطع البخيل أن يمدها لكي تعطي أو تنفق، وكذلك اليد التي تكون راحتها مبسوطة ممدودة الأصابع لا تستطيع القبض على أي شيء، كناية عن الإسراف الذي يكون فيه الإنسان مبذراً للمال فكأنه لا يكاد يمس راحة يده حتى يفارقها وكأنه يسقط من بين أصابعها فلا تمسك به لحظة.
ففي الطرف الأيمن تكون رذيلة التقتير أو البخل، وفي الطرف الأيسر تكون رذيلة الإسراف أو التبذير (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)، فأين الفضيلة إذن؟ إنها واقعة بين رذيلتين، فهي الحد الأوسط بينهما. وهذه الحقيقة القرآنية تجعلنا نتذكر قول أرسطو (بأن الفضيلة حدٌّ أوسط بين رذيلتين)، وهما هنا الإفراط والتفريط. وهذا التقاءٌ بين الفكر الفلسفي وبين بعض تعاليم الدين، ولا مجال للقول بأن أحدهما أخذ عن الآخر، ولكن هو المنطق السليم والفكر الثاقب عند الفلاسفة، ولا غرابة أن تلتقي بعض أفكارهم بما في الأديان من تعاليم.
2 ـ أما الإشارة الثانية فنجدها في قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي
أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد)، وكذلك في قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، وفي المعنى ذاته أيضاً قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق)..إلخ، وهناك آيات أخرى في السياق ذاته. وهذه الآيات كلها نرى فيها دعوة للإنسان أن يحاول معرفة ربه عن طريق التأمل في قدرته على الخلق من خلال نظر الإنسان إلى نفسه ومعرفته لأسرارها وما فيها من إعجاز يدل على تلك القدرة العظيمة التي ليست لأحد غير الله.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ألا تذكّرُنا هذه الآيات الكريمة بفلسفة سقراط وقوله للإنسان (اعرف نفسك)؟ ولا شك أن معرفة النفس هي منتهى الحكمة، وهي التي تدل الإنسان على خالقه، وهنا نرى مرة أخرى كيف أن الأفكار الفلسفية والدينية تلتقي لتصب كلها في مكان واحد وهدف واحد هو الاهتداء إلى الله ومعرفته حق المعرفة.
3 ـ أما الإشارة الثالثة فخاصة بكلمتي (كلا وكلتا) وعلاقتهما بالمنطق].... (وقد نشرت هذه الفقرة الثالثة في تاريخ سابق).
********************************
الشاعر حسن منصور:
[مقتطف من كتابي (في ظلال فقه اللغة) ط1 - دار أمواج - عمّان - 2015م - ص26-28]