*****قصة قصيرة بعنوان((مهماز صحوة))***** بقلمي
.....أيقظته الجملة من سبات عميق خيّم على حياته السابقة ، وأعادته لرشده بعد تجاوز الأربعين ، وها هو الشيب قد بدأ يغزو مفرقه* فحمد الله على هذه الوخزة التي ظنّها أوّل الأمر جرحا عميقا من ابن عاقّ لوالده المحبّ والمفتخر بابنه الخلوق المطيع المهذّب المتفوّق في كلّ شيء كما يطريه وكلّما ورد ذكره في مجلس *
.....نشأ أبو سهيل وفي يده ملعقة من ذهب ، ويلبس كلّ فاخر وثمين ،ويأكل كلّ طيّب وشهيّ، ولم يكن يوما يكلّف نفسه السؤال: كيف ومن أين حصل والده على هذه الثروة الكبيرة ، وما عرف أنّ والده كان يكدّ ليل نهار، صيفا وشتاء ، في زمهرير فارس ، وحر حرور ، يتسلق سفوحا وينحدر أودية ، بين أشواك الخلاء ومنزلقات المخاطر والأهوال ،ليلملم ما أمكنه من مال ليبني لابنه الوحيد مستقبلا مريحا فضفاضا ، لكنّه يعرف أنّ والده عندما أحسّ أنّ قدماه عجزتا عن الهرولة وراء القرش وقفعت يداه عن جني المال ،قرّر أن ينقل لابنه هذه الثروة الواسعة ، نقودا وبيوتا ومزارع وحوانيت ،ويتفرّغ للعبادة وزيارة جيرانه ومحبّيه وذويه *
..... وكلّ يوم يحوم حول هذا البيت الممتدّ طولا وعرضا وسط بستان وارف الظلال كثير الثمار والخضرة *يتفقّد حجارته ونوافذه وشرفاته، ويتخلّل صفوف الشجر ، ويناجي كلّ شجرة ،ويعيد معها ذكرى زراعتها أو تشذيبها أو تقليمها ، ويذكرّها بسنة جنيها الأولى ، وبثمراتها البكر و.........*
..... اتّسعت علاقات أبي سهيل وتشعّبت : ملّاك إقطاعيّون ،تجّار كبار ، صنّاع واسعون، مسؤؤلون أصحاب قرار، فضاقت علاقته بأسرته ، وكاد ينسى والده العجوز ، فهناك أمّ سهيل تقوم بواجبها تجاه الشيخ ، وهناك أحفاده الذين لا يفارقونه، يقضي معهم أسعد لحظاته ، بينما صـبّ وقته على لقاءاته وســـهراته مع محيطيه ، وفي الصيف كان بيته يســتحوذ كلّ الســـهرات : /المضافة /منشرحة ، نوافذها واســـعة ، يطرقها الهواء الطلق من كلّ حدب وصوب ،لأنّ البناء على مرتفع ويحتضنه بستان تجذب أشجاره النسيم العليل *
......الوالد الشيخ لا يحلو له المبيت إلاّ في ركن قصي من غرفة الاستقبال ، فهناك كان يتسامر وزوجته المرحومة كل ليلة ، وكثيرا ما كانت تغزوه أمراض الشيخوخة ، فتسمع منه أنينا موجعا ، رغم كومة الأدوية التي كان يلتهم منها ما يحدّده الطبيب لكلّ يوم ، وشدّة الآلام لا تسمح له كثم أنينه الذي كان يزعج الساهرين الذين يحضرون للمتعة باللعب بأوراق النرد والضحك والسمر ، وكان كثير منهم يعبّر وبأساليب مختلفة عن امتعاضهم من هذا الصوت التشاؤميّ المعكّر للصفو *حتّى أبو سهيل كان يحسّ بالحرج الشديد عندما يسمع الأنين القادم من ركن والده القصيّ *
..... كثيرا ما رجا والده الكفّ عن الأنين ، ولكن !!!! إنّه المرض ، إنّه الألم الشديد ، إنّها الشيخوخة وأوجاعها ، فما الحلّ ؟؟؟ زواره يهربون من صراع الأيام سويعات يبحثون فيها عن لحظة هدوء ومتعة ، فيلاحقهم الأنين والشكوى خلال هذه اللحظات * لا بدّ من حلّ ! *
..... كثيرا ما كان يبثّ شكواه لزوجته بحضور ابنه سهيل ،الذي بلغ الرشد العام الفائت ، ويسألها الحل * فتقول : إنّه أبوك ، صانع ثروتك ، واجبي أن أصونه في عيوني ، وأقدّم له كلّ ما يطلب ، فالرغد الذي نحن فيه من عرق جبينه ، وكدّه ، وسهره ، لا تنس ذلك *
..... ولما أحسّ أن زائريه أقتربوا من الحديث المباشر عن امتعاضهم من أنين والده ،قرّر الحلّ الوحيد الذي لم يجد سواه، يضمن به انشراح السهرة وراحة الوالد حسب ظنّه*
..... : يا سهيل ! هلمّ إليّ !!!
......حاضر يا أبت ! تفضّل ! أمرك !
...... اذهب إلى الكوخ الذي في زاوية المزرعة ، وحاول ترتيب محتوياته وتفريغ قسم منه حتّى يتّسع لفراش لواحد ، وخذ البساط القديم الملقى خلف البيت ،وضعه هناك ، كي ينام جدّك عليه، فالزوار يشكون من أنينه المزعج *
..... كتمت الدهشة أنفاس سهيل ، فلم ينبس ببنت شفه ، ثم هرول نحو البساط ،وجاء به مسرعا ، ونادى أخته : يا فاطمة ! هاتي سكّينا ! أسرعي * ناولته السكّين فقطع البساط في غضب شديد أمام والده جزءين متساويين ، لفّ جزءا ووضعه جانبا ، ثمّ لملم الجزء الثاني وهمّ بالتوجّه نحو الكوخ ، لكنه توقّف بوصول أمّه عندهم *قال الوالد:
..... : لماذا قسمت البساط قسمين ؟ لو تركته كاملا أفضل ! على كلّ، خذ الجزء الثاني ليتغطّى به جدّك عندما يشعر بالبرد الشديد !*
...... هذا الجزء سأفرشه في الكوخ تحت جدّي كي ينام مع الفئران ويسامر الحيات ،بينما السفهاء ودون إزعاج من أنينه يسمرون ويهنؤون ويأكلون ويشربون من خيرات جناها هو، جدّي الذي ذاق كلّ أنواع المرار وحصد كلّ صنوف التعب وشرب كلّ ألوان الخوف ودار كلّ البلاد ليحميك من مدّ يد العوز لأحد ،أيستحقّ هذا _يا أبت_ منك ؟
،،،،،: أيعجبك ما يقول ابنك يا أمّ ســـهيل ؟؟؟ أهذا ما ربّيتك عليه ؟؟؟ كيــف تجــرؤ على هــذا الحديث معي ؟؟؟ تــبّـا لك ، ابنا عاقا * ســـألقّنك درســـا في الأدب والتهذيب لم تســـمع به من قبل *
...... : لقد حذّرتك _يا زوجي _ من قبل كثيرا ! كيف تقبل أن يسعد الناس على عذاب والدك ، ليس هذا مكانه ، بل مكانه فوق رأسك ، إنّه أبوك ، وضع بين يديك ثروة لم تتعب لحظة في جني قرش منها ، أترميه في كوخ حقير كهذا ، ويلك من الله ، إنّ سهيل على حقّ ، تربيتي له لم تذهب سدى *
...... سأكمل حديثي _ يا أمّي _! إن، الجزء الثاني سأحتفظ به لأفرشه لك _يا أبي_ وفي نفس المكان الذي سأفرش فيه هذا الجزء من البساط لجدّي وفي نفس الكوخ عندما تهرم ،
..... أسند أبو سهيل كاهله على الحدار ، ووضع يده اليمنى على جبهته ، مطأطئا رأسه ، وخيّم الصمت على الجميع برهة ،كأنّما على رؤوسهم الطير ، وبعد هنيهة ، طلب من ابنته مفتاح سيّارته الفاخرة، ثمّ اتّصل بأصحابه ، وأخبرهم أنّه مسافر للعاصمة لأمر هامّ وفوريّ *
..... قبّل ابنته وودّع زوجته ، ثم أقبل على ابنه سهيل يحضتنه ويربت على ظهره ، ويردد: لقد أنجبت رجلا ، أنت على حقّ ، ، سأعود بوجه آخر ،وجه الابن البارّ حقّا احرصوا على أبي ، إلى اللقاء */انتهت القصة/
الأربعاء 2016/2/10
القاص:خليل حسين اطرير/الأردن/الرصيفة/ 00962788543834
ملاحظة: جميع حقوق الملكية الفكرية محفوظة