ركب راسه الكاتب على الشافعي
مثل شعبي يضرب للمعاند الذي يصر على عناده , فينفخ الشيطان في انفه فيرتكب حماقة , او عمل خاطئ يصرّ على تنفيذه نفذه رغم معارضة من حوله . هذا ــ يا دام عزكم ــ هو المعنى الخفيف القريب للمثل . اما المعنى الثقيل , فتعالوا نناقشه معا , بعد ان تصلوا على خير الانام :
تعلمون ــ رحمكم الله ـــ ان الراس مركب فوق البدن , فهو القائد اذن كما اراد الله له , لأنه يحوي السمع والبصر والعقل , اما باقي البدن فيحوي العاطفة والغرائز والجوارح , والاصل ان يقود العقلُ الجوارحَ , ليصل بها الى بر الامان , أي يكبح جماحها ويشكمها ويمنعها من ارتكاب الخطايا والآثام , ويرشدها سبيل الخير و الصلاح , والاصل ان يكون العقل حازما في اوامره ونواهيه حتى تستقيم الامور .
احيانا يتساهل العقل مع الغرائز , فيسمح لها الانغماس في الملذات ولو لماما , ومهما حاول منعها بعد ذلك فلا يقدر , لأنها تكون قد ذاقت الشهوات فأحبتها , كمتذوق الخمر او مجرب المخدرات , لن يستطيع الصبر عنها , عند ذلك تصبح الغرائز والشهوات هي القائد المسيطر على العقل . فكلمة الركوب اذن هي وصف دقيق يعني : تذليل الركوبة وتطويعها لرغباته , فاذا قلنا فلان ركب راسه , فالمعنى الدقيق انه طوع العقل وذلّـله وسخره لرغباته وشهواته .
احيانا ــ يا سادة ــ نغض الطرف عن بعض السلوكيات التي يحدث فيها ركوب الراس فنبرر مثلا فعل رجل برم بزوجته الزنانة , فنفخ الشيطان في منخره وركب راسه , واخرجها من البيت في ليلة شديدة البرودة , وحلف عليها يمين طلاق لا تدخل حتى تعد نجوم السماء . وقد نغض الطرف عن فئة من الشباب نفخ الشيطان في مناخرهم وركبوا رؤوسهم واصروا على افتعال مشادة مع الدرك , ليفسدوا مباراة ليست لصالح منتخبهم المفضل , فينتهي الامر بعصّابات ولفائف على الرؤوس والايدي والاقدام .
أما الذي لا يمكن التساهل فيه ابدا ان يصل العنف الى ارقى صروحنا العلمية , اقصد جامعاتنا (عنوان حضارتنا ) فتتحول الى ساحات حرب ضروس كداحس والغبراء وحرب البسوس , ويا لثارات كليب , فكليب قد مات من زمن , وان كانت البسوس ما زالت تعيش بيننا , وتعشش وتفرخ في عقول الكثير منا . فهذا العنف ــ ايها السادة ـــ اذن اصبح ثقافة مجتمع , وعلينا ان لا ندفن رؤوسنا في الرمال , ونواجه الخطر قبل استفحاله بكل شجاعة وعزم واصرار . لابد ونحن ندق ناقوس الخطر ان تتضافر الجهود من المختصين في التربية الاسرية , والارشاد النفسي والتربوي والاجتماعي , و برعاية فاعلة من الحكومة لكبح جماح هذا العنف , الذي يجسد ظاهرة باتت تؤرق المجتمع وتثير الرعب بين اولياء الامور , فيحسبون الف حساب قبل ان يسجلوا ابناءهم في بعض الجامعات التي لها سوابق في هذه الظاهرة العجيبة الغريبة , يركب بعض الطلاب رؤوسهم فيخوضوا معركة داخل حرم يفترض ان يكون امنا , فهو صرح علم ومعرفة وحوار ونقاش هادف بناء , وتقنيات وتجارب واستخلاص نتائج
اعلمُ ان مركز الملكة رانيا العبد لله لتكنولوجيا التعليم اطلق حملة (معا ) , لمتابعة العنف في المدارس الاساسية , وايجاد الحلول المناسبة , ولكنه لم يغير من الواقع شيئا طوال عمليات التطبيق . وذلك في ظنّي لان هذه الحملة اغفلت مرحلة ما قبل المدرسة , فمن اراد البحث في هذا الموضوع لابد ان يبدا من قاعدة الهرم ــ اي الاسرة ــ فربما يكون السبب كامنا في عدم استقرار الاسرة ماديا ومعنويا , وقد يشاهد الطفل عنفا بدنيا او معنويا من احد الوالدين تجاه الاخر , فيُغرَسُ ذلك في ذهنه , يخرجه عندما يكبر , او ربما يكمن العنف في نوع البرامج التي يشاهدها الاطفال عبر الفضائيات المختلفة , تنتقل معهم الى المدرسة ثم تكبر معهم لتدخل حرم الجامعة . او ربما يكمن السبب في موروث اجتماعي ؛ هو مسؤولية ابن العشيرة او البلدة عن ابنة عشيرته او بلدته , اذ تأخذه الغيرة والحمية فلا يسمح لأي شاب التقرب منها والتحدث اليها , حتى لو كان زميلا ومهما كان حديثه بريئا . فيثير حربا يستنهض فيها الهمم والحمية والنخوة لدي افراد القبيلة والقبائل المتحالفة معها في حرب مقدسة دفاعا عن شرف القبيلة , واللافت للانتباه في هذه الحالة : التعصب والتكتل والغاء العقل والتعامل بلغة اليد والسلاح , بعيدا عن اي حوار .
قد تكون الاسباب السابقة كلها مجتمعة , اذن لا بد للباحثين من تحديد اسباب العنف ليعالج معالجة علمية صحيحة , واذا عرفت العلة سهل العلاج مهما كان مرا , فمرارته تحتمل اذا كانت الغاية هي الشفاء .
اخير اقول ــ ايها السادة ــ : من حقي كمواطن ان اتساءل عن دور ادارات الجامعات في السيطرة على امر كهذا . اين العقاب الرادع , بل اين الامن الجامعي ؟ وكيف يسمح بدخول السلاح الى الحرم الجامعي , هذا الامن هو نفسه الذي يمنع الطائر في السماء ان يمر من فوق الجامعة اذا زارها مسؤول كبير . وقاكم الله وابناءكم شر العنف وطبتم وطابت اوقاتكم .